
مسلمون حول العالم ـ خاص ـ هاني صلاح
في قلب العاصمة الكوسوفية بريشتينا، تنبثق تجربة تعليمية وتربوية رائدة، تُعيد رسم العلاقة بين الطفل والقرآن، وتمنح حفظ كتاب الله نكهة إنسانية وروحًا تربوية، إنها أكاديمية “الحفاظ الصغار” – Akademia e Kur’anit “Hifdh Kids”، التي تحولت خلال سبع سنوات إلى واحة قرآنية يرتادها مئات الأطفال من مختلف الأعمار، ليتعلّموا في ظلالها الحفظ، والفن، والقيم، والانتماء.
قصة البداية.. شقيقتان وحلم قرآني
أسّست الأكاديمية الشقيقتان الحافظتان رينيتا نيتاي وفاطمة نيتاي، وهما خريجتان من كلية الدراسات الإسلامية، في بريشتينا، وحافظتان لكتاب الله، وتنتميان إلى جيل نسوي شاب آمن بأن القرآن ليس فقط نصًّا للحفظ، بل منهج حياة وأداة لبناء الإنسان، ومن هذا الإيمان انطلقت فكرتهما في تأسيس الأكاديمية التي تعمل تحت إشراف المشيخة الإسلامية في دولة كوسوفا.
تقول المعلمتان: “أكبر نجاح في حياتنا تحقق مع القرآن، وكل طفل يحفظ أو يتأثر بآية أو يُبدع في رسم مستوحى من كتاب الله، هو ثمرة نعتز بها في رحلتنا”.
1000 طفل في 7 سنوات.. أرقام تروي النجاح
منذ انطلاقتها قبل سبع سنوات، استطاعت الأكاديمية أن تحتضن أكثر من 1000 طفل وطفلة، من مختلف الفئات العمرية، بداية من مرحلة الروضة وصولاً إلى المرحلة الثانوية، من خلال برامج مرنة تستجيب لمستوى الحفظ، وورش إبداعية تسعى لغرس حب القرآن في النفوس بأساليب محببة للطفل.
تعليم قرآني بنكهة الفن والقيم
ما يميز الأكاديمية ليس فقط تفوقها في تحفيظ كتاب الله، بل أيضًا دمجها البديع بين التلاوة والتعبير، وبين الحفظ والفن. في قاعاتها وصفوفها، يتعلّم الأطفال برّ الوالدين، وحب الوطن، والصدق، والتسامح، كما يُشجَّعون على الرسم والمسرح والأعمال اليدوية المستوحاة من معاني القرآن.
من بين أنشطتها اللافتة، إشراك الأطفال في التعبير عن مشاعرهم تجاه الأسرة والوطن والقرآن من خلال الفنون البصرية، ما يمنحهم فضاءً آمنًا للتفاعل والابتكار.
إجازة بالسند من الأزهر.. اعتراف علمي رفيع
في عام 2024، حققت الأكاديمية إنجازًا جديدًا تمثّل في حصول معلمتيها، رينيتا وفاطمة نيتاي، على شهادة الإجازة بالسند المتصل إلى النبي ﷺ من الأزهر الشريف في جمهورية مصر العربية. ويُعد هذا الحدث بمثابة تتويج علمي لمسيرتهما، ويعطي الأكاديمية بُعدًا شرعيًا رسميًا يرفع من مكانتها داخل كوسوفا وخارجها.
إشراف المشيخة الإسلامية.. ومظلة الثقة المجتمعية
تعمل أكاديمية “الحفاظ الصغار” تحت مظلة المشيخة الإسلامية في كوسوفا، الأمر الذي يوفّر لها الغطاء المؤسسي والديني، ويمنحها ثقة مجتمعية واسعة، لا سيما في ظل تزايد الطلب المجتمعي على النماذج التعليمية الأصيلة، التي تُراعي الجذور الإسلامية والثقافة المحلية في آنٍ واحد.
فضاء تربوي حيّ.. لا مجرد مدرسة
تتجاوز الأكاديمية كونها مجرد مدرسة لتحفيظ القرآن، فهي بيئة تربوية شاملة، يعيش فيها الطفل حياةً مليئة بالحب والرعاية والانضباط، يتعلّم فيها كيف يكون القرآن خلقًا وسلوكًا، لا مجرد محفوظات يتلوها عن ظهر قلب.
وفي الوقت الذي يعاني فيه كثير من الأطفال في المجتمعات الأوروبية المسلمة من أزمة هوية وانفصال وجداني عن تراثهم، تبرز هذه الأكاديمية كمنارة تُعيد ربط الناشئة بجذورهم الروحية والثقافية.
مشروع ملهم للعالم الإسلامي
في ظل التحولات العميقة التي يشهدها العالم الإسلامي في مجال التربية والتعليم، تُمثل “أكاديمية الحفاظ الصغار” نموذجًا ناجحًا وقابلًا للاستنساخ، لا سيما في البيئات التي تتطلب دمج التعليم الشرعي بالأساليب الحديثة، وتفعيل دور المرأة المسلمة في العمل التربوي، وتعزيز الهوية الإسلامية بأساليب محببة وعملية.
نموذج لقيادة نسائية ملهمة
تجربة “الحفاظ الصغار” ليست مجرد مبادرة تعليمية، بل هي قصة وعي، ونموذج قيادة نسائية ملهمة، ومشروع حضاري متكامل يثمر جيلًا يعيش القرآن في قلبه، ويعبّر عنه بريشته، ويسلكه في بيته ومدرسته وفضاء مجتمعه.
إنها واحة قرآنية صغيرة في جغرافيا البلقان، لكن صداها يُلهم المربّين في الشرق والغرب، ويذكّرنا بأن بناء الأمة يبدأ من طفلٍ يحمل القرآن في قلبه، وابتسامة في وجهه، وريشة فنان في يده.