مسلمون حول العالم
نافذتك إلى أخبار الأقليات المسلمة

مسجد “بيهتش” بالمجر

سلسلة ضمن أدب الرحلات ينشرها الكاتب حول زياراته لـ30 مسجدًا حول العالم

مسجد “بيهتش” بالمجر

سلسلة ضمن أدب الرحلات ينشرها الكاتب حول زياراته لـ30 مسجدًا حول العالم

مسلمون حول العالم ـ متابعات

بقلم/ د. عاطف معتمد، جغرافي وباحث ومترجم.

في قطار من الحقبة الشيوعية مزود بتجهيزات عصرية قطعت الطريق إلى “بيهتش” متطلعًا إلى حالة التناغم المعماري في الأراضي المجرية. فعلى خلاف ما تعانيه مراكز العمران في دول العالم الثالث من التباين الكبير بين العاصمة ومدن الأطراف، تتسم مدن وبلدات المجر، كغيرها من مدن وسط أوروبا، بانسجام وتناغم معماري بين المركز والأطراف على السواء. ربما يعود الفضل في تضييق الفوارق المعمارية وخدمات البنية الأساسية إلى الفترة الشيوعية.

الفارق الأساسي الذي ستلحظه حين تقارن بين بودابست وبيهتش، أن الأولى تعرض عليك في بانوراما معمارية حلقات متجاورة من تاريخ الألف سنة الماضية، أمضاها الشعب المجري في صدام واشتباك مع القوى الإقليمية المجاورة، مسيحية وقومية وإسلامية وشيوعية. في المقابل ستبدو بيهتش بلدة تجمع بين عمارة القرون الوسطى ورفاهية القرن الحادي والعشرين.

صغيرة وأنيقة

بيهتش مدينة صغيرة أنيقة، ونظرًا لأنها تكتب بالحروف اللاتينية Pécs، فقد كتبها كبار الجغرافيين المصريين في الكتب الجامعية “بيكس”، وصرنا نردد خلفهم نطقًا خاطئًا عذرُه أن المؤلف قرأ ولم يشاهد، رسم الحروف ولم يسمعها من أهلها.

يبدأ كل شيء في “بيهتش Pécs” من الميدان الرئيس الذي يتوسطه المسجد الذي حوله المجريون إلى كنيسة. من أي مكان في وسط المدينة يمكنك رؤية المسجد وقد علا الصليب فوق هلاله.

الأمر مختلف هنا عما مارسه المسيحيون في روسيا خلال العهد القيصري حين كسروا الأهلة، ووضعوا الصلبان فوق المساجد وحولوها إلى كنائس.

داخل المسجد/الكنيسة في بيهتش، يؤكد لك المشهد أن الدِّين لمن غلَب، فبهو المسجد وأروقته صارت مقصورات كنسية، وتم تحويل مشربيات المسجد وقبته الفخمة إلى منصات للأيقونات والتصاوير المسيحية. المشهد النادر تمثِّله قبلة المسجد، في وسط القبلة “بسم الله الرحمن الرحيم”، وفوق المحراب تمثال يجسد المسيح مصلوبًا ينزف الدم من صدره!

لم يعد المسجد الذي يحمل اسم “الغازي قاسم باشا” مسجدًا للصلاة؛ إذا أردت الصلاة فليس أمامك في “بيهتش” سوى مسجد صغير بمئذنة بالغة التميز. تم تحويل نصف هذا المسجد إلى متحف للتاريخ التركي، والنصف الآخر زاوية للصلاة.

في نهاية اليوم قفلت راجعًا إلى العاصمة بودابست. كنت في غاية الجوع فقررت دخول أول مطعم يقابلني. من بين لافتات متنوعة لأطعمة مجرية وأميركية شدني مطعم عربي يحمل اسم “ملك الفلافل”، بعد أن جلست إلى طاولتي تذكرت عهدًا كنت قد قطعته على نفسي ألا أدخل تلك المطاعم التي تحمل أسماء المشكلات النفسية والسياسية التي نحملها معنا في المهجر على شاكلة “إمبراطور” البيتزا، و”برنس” الشاورما، وكباب “الزعيم”.

البائع العربي

ما إن تعرف على ملامحي العربية حتى قابلني البائع العربي بجفاء، لا بأس.. لم تعد تضيرني الآن تلك المقابلة العبوس، فقد فهمت السبب من أسفار وخبرات سابقة. عليك أن تتحمل ذلك الجفاء لخمس دقائق إلى أن يتأكد “شقيقك” العربي أنك لم تأت حاملًا إليه مشكلة أو “ورطة”.

عادة ما تكون “الورطة” إلحاحًا في طلب عمل، أو ترتيب الإقامة بدون نفقات، أو التعامل مع السلطات المحلية، أو طلبًا للمال لشراء تذكرة العودة إلى الوطن بعد انسداد السبل.

نجحت الدقائق الخمس الأولى في طمأنة البائع مازن، الذي سرعان ما أسلم نفسه لرغبة الحكي عن تجربته القاسية. ترك مازن وطنه هربًا من ثنائية البطالة والاستبداد، ودفع كل ما يملك لسمسار تهريب لاجئين.. كانت الوسيلة سيارة نقل خضراوات متجهة من تركيا إلى أوروبا، دفن المهرب مازنًا بين أقفاص الخيار والطماطم مع التشديد عليه ألا يتحرك خطوة من مخبئه.

بعد أسبوع من سفر السيارة عبر جنوب شرق أوروبا وصولًا إلى وسط القارة، تمكن المفتشون على الحدود المجرية من العثور على مازن بين الأقفاص، كانت صحته قد تدهورت لدرجة بالغة. بقي مازن في المستشفى شهرين بين الموت والحياة، وحين أفاق خضع لعدد من التحقيقات إلى أن سمحت له السلطات المجرية بوثيقة إقامة في المجر.

بمزيج من الأسى والأسف ابتلعتُ لقيمات طعامي مع أحزان مازن، ثم ودَّعته مستأنفًا رحلتي، متمنيًا أن يمنحه الله العزم في مواجهة مشكلاته الكثيرة، وفي مقدمتها تعلم اللغة المجرية، وإعادة بناء مستقبله، واختيار زوجة تفهم تعاليم دينه الإسلامي، ثم الحفاظ على هويته أو بالأحرى ما تبقى منها.

ودَّعت مازنًا وأطلقت أقدامي في بودابست عاصمة المجر وقلبها النابض. لن يكفيك شهر من التجوال الجاد بين المتاحف والكنائس والشوارع والمسارح والأزقة حتى تقف على كافة تفاصيلها، هذا إن أردت التدبر والتأمل ولم تكن رغبتك فقط أن تمرَّ على المدن فتوقع في دفاتر الحضور وتعود إلى الأصحاب فتقول: “كنت هناك”.

 

التخطي إلى شريط الأدوات