مسلمون حول العالم ـ متابعات ـ هاني صلاح
رحلة ذات بُعد خيري إنساني، انطلقت من فهمٍ عميق للواقع، واعتمدت على المعرفة الميدانية وبناء العلاقات المباشرة، بهدف مدّ جسور التواصل وتعزيز الشراكات بين المجتمع المسلم في سنغافورة ونظيره في تايلند.
ونظرًا لأهميتها ومضامينها المعرفية والإنسانية، تابع موقع مسلمون حول العالم تفاصيل هذه الرحلة، وقام بترتيب منشوراتها زمنيًا، وإعادة صياغتها بأسلوب معرفي ينسجم مع أدب الرحلات، مع إعادة نشرها بتصرّف، على لسان صاحب الرحلة، رجل الأعمال والمهندس والناشط في العمل الخيري من سنغافورة، محمد خليب.
بقلم/ Mohd Kahliab
لم تكن هذه الرحلة مجرد انتقال جغرافي بين مدن متباعدة، ولا برنامجًا سياحيًا تقليديًا، بل جاءت بوصفها رحلة معرفية وإنسانية عميقة في قلب جنوب تايلاند، حيث تتقاطع الجغرافيا مع التاريخ، وتتشابك الهوية الدينية مع الواقع الاجتماعي، وتبرز ملامح مجتمع مسلم متجذر، متماسك، ومفعم بالحيوية رغم التحديات.
امتدت الرحلة عبر مسار طويل شمل بانكوك، وكرابي، وساتون، وفطاني، وناراتيوات، ويالا، وصولًا إلى هات ياي، حاملةً في محطاتها لقاءات، ومشاهد، وتجارب، تكشف عن ثراء التجربة الإسلامية في هذه الأقاليم، وتؤكد أن الجنوب التايلاندي ليس هامشًا، بل فضاءً حيًا للعلم والعمل والدعوة والتنمية.
بانكوك.. بوابة الرحلة والتعارف الأول
كانت بانكوك نقطة الانطلاق وبوابة الدخول إلى الرحلة، حيث بدأت أولى لحظات التعارف والتخطيط برفقة الأخ مسلم، ابن إقليم فطاني والمقيم حاليًا في العاصمة. في هذه المدينة الصاخبة، بدت ملامح التعايش واضحة، وتجلّت صورة المسلم التايلاندي المنفتح، القادر على الجمع بين العمل والهوية، وبين الانتماء المحلي والبعد الإسلامي الأوسع.
بانكوك.. الاقتصاد الحلال وتجربة الأعمال
منذ الساعات الأولى، حملت الرحلة بعدًا اقتصاديًا لافتًا، من خلال زيارة أحد المشاريع الخاصة، وهو مشروع مغسلة ملابس تعمل على مدار الساعة، أطلقه الأخ مسلم خلال العام نفسه. هذه المحطة عكست روح المبادرة والاعتماد على الذات، وقدرة أبناء الجنوب المسلم على الاندماج في الاقتصاد الحضري دون التفريط في القيم. كما شكّلت تجربة الغداء في مطعم حلال متخصص نموذجًا لحضور الاقتصاد الحلال في قلب العاصمة التايلاندية.
بانكوك.. لقاءات فكرية في فضاء الضيافة الإسلامية
في المساء، كان اللقاء في أحد الفنادق الحلال البارزة مناسبة لحوار فكري مفتوح، جمع شخصيات من خلفيات متعددة، وتناول بيئة الأعمال في بانكوك، والتحديات التي تواجه المستثمرين المسلمين، إلى جانب نقاشات أوسع حول أوضاع المسلمين في جنوب شرق آسيا. وقد أضفى تنوع الجنسيات المشاركة بعدًا أمميًا يعكس وحدة الهم الإسلامي رغم اختلاف السياقات.
من بانكوك إلى كرابي.. الطريق بوصفه تجربة
لم يكن الانتقال الطويل برًا مجرد عبور، بل تحوّل إلى مساحة للتأمل في الجغرافيا التايلاندية المتنوعة. محطة التوقف في سورات ثاني مثّلت استراحة محلية صادقة، حيث الطعام البسيط والاحتكاك المباشر بالحياة اليومية، قبل استكمال الطريق نحو كرابي.
كرابي.. الجمال الطبيعي والهوية المحلية
الوصول إلى كرابي كان إعلانًا واضحًا عن اختلاف المشهد؛ جبال الحجر الجيري الشاهقة، والهدوء الذي يلف المدينة، منحا الرحلة بُعدًا جماليًا خاصًا. بعد الاستقرار، جاءت جولة الأسواق الشعبية والعشاء المحلي لتعكس قدرة المجتمع المسلم على الحفاظ على حضوره في بيئات سياحية عالمية.
من كرابي إلى ساتون مرورًا بترانغ.. الإسلام في التفاصيل اليومية
انطلقت الرحلة فجرًا بعد صلاة الفجر، حيث كان الإفطار في مطعم محلي يديره مسلمون مثالًا حيًا على الاقتصاد المجتمعي. زيارة مسجد مدينات الإسلام في ترانغ فتحت نافذة على العمل الدعوي الهادئ، قبل التوجه إلى ساتون، أحد أبرز معاقل المسلمين في الجنوب.
ساتون.. المساجد والتاريخ الحي
في ساتون، برز مسجد الهاشمي كمعلم معماري وروحي لافت، حتى بدت ملامحه وكأنها تحاكي مشاهد من فلسطين، في دلالة رمزية على وحدة الوجدان الإسلامي. هذه المحطة أكدت أن المساجد في الجنوب التايلاندي ليست دور عبادة فحسب، بل حاضنات للهوية والذاكرة.
ساتون.. العلم والقيادة التربوية
زيارة الأستاذ شُكري لانغبوتيه شكّلت محطة فكرية مهمة، عكست دور النخب الأكاديمية في توجيه المجتمع. كما مثّلت زيارة كلية أندامان الأناضول للتكنولوجيا البحرية نموذجًا للتعليم المتخصص الذي يجمع بين المهنية والانفتاح الدولي، بإدارة قيادات مسلمة واعية بدورها.
ساتون.. العمل الأهلي والتنمية المستدامة
جاءت زيارة مؤسسة سنابل للتعليم والتنمية الاجتماعية لتؤكد أن العمل الخيري في الجنوب تجاوز الإغاثة إلى بناء الإنسان، من خلال التعليم والدعوة والإعلام الهادف. وقد شكّلت هذه المحطة مثالًا على التكامل بين الدعوة والتنمية.
ناراتيوات.. الضيافة الشعبية وروح المجتمع
في ناراتيوات، تجلّت قيم الكرم والتكافل من خلال مائدة عائلية عامرة، عكست بساطة العيش وعمق الروابط الاجتماعية. هذه اللحظات الإنسانية كشفت عن مجتمع متماسك، يستمد قوته من الأسرة والجوار.
الثقافة الشعبية.. مسابقات محلية وهوية متجذرة
مشاهدة إحدى الفعاليات الشعبية، كمسابقة الجراد، أظهرت جانبًا ثقافيًا فريدًا، حيث تمتزج التقاليد بالفرح الجماعي، وتتحول الشوارع إلى فضاءات تواصل اجتماعي نابض بالحياة.
فطاني.. الجامعة وبناء النخبة
في فطاني، شكّلت زيارة جامعة فطاني ولقاء رئيسها محطة علمية بارزة، خاصة في ظل النقاش حول دعم الطلبة الوافدين من دول مختلفة. الجامعة بدت نموذجًا لمؤسسة تعليمية تسعى لبناء نخبة تجمع بين العلم الشرعي والمعرفة الحديثة.
فطاني.. الوقف والتنمية المستقبلية
زيارة وقف مدينة السلام كشفت عن رؤية استراتيجية طويلة الأمد، تهدف إلى تحقيق الاستدامة الاقتصادية والخدمية، من خلال مشاريع طبية وتعليمية وتجارية، تُدار بروح مؤسسية شفافة لخدمة المجتمع.
العمل الإنساني الميداني.. الفقراء في قلب الاهتمام
من أكثر محطات الرحلة تأثيرًا كانت زيارة الأسر الأشد فقرًا، حيث برزت الحاجة الماسة إلى دعم اجتماعي مستدام. هذه الزيارات أعادت التأكيد على أن التنمية الحقيقية تبدأ من الإنسان الأضعف.
يالا.. الشباب والقيادة والمستقبل
في يالا، حملت اللقاءات مع الطلبة، خاصة من الجالية الكمبودية، بعدًا تربويًا وإنسانيًا، عكس التنوّع داخل المجتمع المسلم. كما مثّل اللقاء مع محافظ يالا، أول محافظ مسلم للمنطقة، محطة قيادية مهمة، أبرزت إمكانات الحضور الإسلامي في الإدارة والحكم المحلي.
المساجد التاريخية.. الذاكرة الممتدة
زيارة المسجد المركزي في باتاني، ثم مسجد كريسيك العريق، أعادت ربط الرحلة بالبعد التاريخي العميق للإسلام في المنطقة، حيث تختلط الأسطورة بالتاريخ، وتبقى المساجد شواهد حية على قرون من الوجود الإسلامي.
يالا.. الأسرة والتعليم
الزيارة الختامية لأسرة الأخ مسلم في يالا سلّطت الضوء على دور الأسرة في صناعة النجاح، حيث بدا واضحًا أن التعليم كان خيارًا استراتيجيًا في بناء الأجيال.
![]()
فضاء إنساني وحضاري غني
تكشف هذه الرحلة، في محصلتها، أن جنوب تايلاند ليس مجرد جغرافيا بعيدة، بل فضاء إنساني وحضاري غني، يمتلك مقومات النهوض والاستمرار.
لقد أظهرت المحطات المتعددة مجتمعًا مسلمًا واعيًا، متجذرًا في أرضه، منفتحًا على العالم، وقادرًا على تحويل التحديات إلى فرص.
إنها رحلة أكدت أن الاستثمار في الإنسان، والتعليم، والعمل المؤسسي، هو الطريق الأصدق لبناء مستقبل متوازن، وأن أدب الرحلات حين يمتزج بالمعرفة، يتحول إلى شهادة حية على واقع يستحق أن يُروى ويُفهم.














فضاء إنساني وحضاري غني