هاني صلاح
كانت حياة يعقوب حاسيبي، كلها سفر، سافر طلباً للعلم، ثم سافر للدعوة، وحين احتاجه وطنه لبى ندائه وعاد على الفور ليبدأ في تنفيذ مشروعه الدعوي على مدار 16 سنة من الحركة الدائبة التي لا تكل ولا تمل لتحقيق هدف واضح ومحدد هو بعث روح الإسلام من جديد وسط الشعب الألباني الذي فرقته الحدود التي رسمتها قرارات مؤتمر لندن في عام 1913م ظلماً وعدواناً لمحو هويته وتدمير ثقافته بعد أن فصلته عن جسد الخلافة الإسلامية في عام 1912م.
طالع سيرته الحياتية في هذه المحاور:
ـ مولده ونشأته .. سفر دائم..
ـ داعية .. في القرن العشرين..
ـ شعوره بالمسئولية..
ـ عمل متواصل..
ـ نجدته لإخوانه الكوسوفيين..
ـ دفاعه عن أرضه..
ـ وفاته..
يعقوب حاسيبي
عندما قابلته للمرة الأولى في العاصمة الألبانية تيرانا في أواسط عام 1995م من فصاحة لسانه لم أفرق بينه وبين أي داعية عربي بل أستطيع أن أقول أنه كان أتقن للغة العربية وأعرف بعلومها من كثير من الأئمة العرب. كان يحمل فهماً سليماً شاملاً للإسلام مستوعباً تماماً أهداف ومقاصد الشريعة من خلال النصوص القرآنية والأحاديث النبوية .
مولده ونشأته .. سفر دائم
ولد “الإمام” في قرية “سلوبتشان” بمحافظة “كومانوفا” ذات الأغلبية الألبانية المسلمة شمال غرب مقدونيا في 2 فبراير 1951م، و في موطنه أنهى الدراسة الابتدائية، و لتميزه دراسياً على أقرانه تم ابتعاثه لإكمال المرحلة الثانوية في دمشق بسوريا، وكان أحد أسباب تميزه هو تأخره في استكمال دراسة الابتدائية نتيجة للوضع الاقتصادي للأسرة الأمر الذي دفعه بعد عودته للدراسة إلى الحرص الشديد على تحصيل العلوم وساعده على استيعاب الدروس بشكل أعمق كبر سنه نسبياً عن زملائه من الطلاب.
وفي عام 1980 انتقل إلى مصر لإتمام دراسته الجامعية بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة، ولدى تخرجه في عام 1985م سافر إلى مدينة ” لفركوسن ” بألمانيا لاستلام عمله الجديد كإمام مسجد للجالية المسلمة بها، وفي نفس الوقت لم يتوقف عن مواصلة دراسته العليا ببيروت في لبنان.
وقد تركت هذه السفريات المتتالية للإمام منذ صغره إلى البلدان العربية أثرها الكبير على شخصيته وتكوينه الفكري والثقافي. فقد أكسبته إلماماً كبيراً بالعلوم الإسلامية وإدراكاً واسعاً لمفردات اللغة العربية و اتصالاً لصيقاً بالعلماء والمشايخ في المنطقة العربية. كما أن فترة عمله في ألمانيا كإمام وداعية للجالية الإسلامية بها قد أكسبته بعدا جديداً في رؤية أوضاع المسلمين في الغرب بعد أن عايشها في الشرق، الأمر الذي ترك بصمات واضحة على منهجه الإصلاحي في بداية مشواره الدعوى، وكما كانت رحلته في طلب العلم كلها سفر وحركة؛ أصبحت حياته في الدعوة و التوجيه أكثر سفراً وأوسع حركة عن ذي قبل حتى أتته المنية خلال سفره وكأن السفر أصبح شاهداً على قيامه برسالته التي عاش من أجلها.
داعية.. في القرن العشرين
تميز الإمام يعقوب بصفات خاصة ميزته عن غيره من أئمة البلقان في دعوته للآخرين شباب و شيوخ، و أسلوبه في التعامل معهم كان مثالا رائعاً لصورة الإمام الداعية في القرن العشرين. فقد كان يتجنب جرح شعور الآخرين حتى وإن اختلفوا معه، وكان همه الأكبر النهوض بقومه ليس فقط دينياً و إنما في المجالات الأخرى، كما أنه كان حريصاً على التواصل مع غير المسلمين من المقدون “السلاف الأرثوذكس” الذين يقطنون في منطقته لدعوتهم إلى الإسلام وكانت له لقاءات وحوارات كثيرة معهم؛ ونتيجة لذلك دخل عدد منهم في الإسلام.
كما تميز بنشاطه الدعوي المكثف أثناء زياراته وسفرياته للمناطق الألبانية المجاورة في البلقان كألبانيا وكوسوفا؛ ومن خلال الدعوات التي كانت توجه إليه للقاء الشباب الألباني كان يسعى لإحياء الروح الإسلامية في داخل نفوسهم من جديد؛ وفي كل منطقة ذهب إليها أحبه الجميع و نتيجة لذلك أضحى له طلاب ومريدين بهذه التجمعات هم اليوم من يحملون لواء الدعوة والإصلاح بمناطقهم ويستكملون الرسالة التي بدأها الإمام يعقوب بنفسه. واشتهر الإمام وذاع صيته لدرجة أنه إذا سافر أحد من منطقته ” بكومانوفا ” إلى الدول المجاورة كان أول سؤال يوجه إليه من قبل الألبان هناك: “هل تعرف الإمام يعقوب حاسيبي؟”.
وفي حوار مع وكالة “تربشا” الألبانية قبيل وفاته بأيام قليلة ذكر الإمام في حواره “لقد أوجبت على نفسي حب واحترام قومي، وأن أبذل غاية جهدي في سبيل رفعتهم” وأضاف في نفس الحوار: “الناس عندي سواسية أحبهم وأقدرهم، حتى هؤلاء المخطئين من قومي فأنا أحبهم لأن مسئوليتي تقتدي مني أن أبذل قصاري جهدي في تقديم النصيحة لهم” .
ورداً على سؤال مع من مستعد للتعاون، أجاب الإمام “أنا مستعد للتعاون مع الذي:
ـ يسعى للاقتراب من الحقيقة.
ـ ويحرص أن يكون قريباً من الناس.
ـ وينشغل بأزماتنا الكبرى و قضايانا القومية الرئيسية.
ـ ولديه شعور بالمسئولية.
وحينما تفككت جمهورية يوغسلافيا السابقة في عام 1990م واستقلت مقدونيا عنها وظهرت بوادر الحرب في البلقان، دفعه شعوره بالمسئولية إلى العودة سريعاً لموطنه اقتناعاً منه بان بلده أصبحت الآن في أشد الحاجة إليه أكثر من أي وقت مضى، فقد كان أول من أدرك خطورة المرحلة التي تمر بها المنطقة وأهمية التحرك السريع للمسلمين في مقدونيا-أكثر من 50% يشكل الألبان 40% منهم ـ للمطالبة باسترداد حقوقهم المدنية المشروعة التي حرموا منها لعقود طويلة.
و بعد عودته لمقدونيا عمل كإمام في قريته ثم أصبح ممثل للمشيخة الإسلامية في محافظة كومونوفا ومسئول عن الأئمة بها. وقد تميز الإمام يعقوب عن غيره من أئمة البلقان بقوة خطبه يوم الجمعة و تأثيرها في مريديه؛ لدرجة أن وصفه “أ.د شفكت كراسنيتشي” إمام المسجد الكبير بالعاصمة الكوسوفية برشتينا بأنه: “إمام البلقان ” .
وقد سجلت له أكثر من 5000 خطبة جمعة ودرس مسجدي في الفترة من عام 1990م منذ عودته من ألمانيا وحتى وفاته في بداية عام 2006م. وتنتشر هذه الأشرطة في كافة التجمعات الألبانية؛ كما تتنافس كثير من الإذاعات المحلية الألبانية في بثها عبر برامجها خاصةً في شهر رمضان الكريم. وكان الإمام يعقوب يهتم كثيراً بالإعداد والتحضير لخطبة الجمعة ولدى استفسار أحد تلاميذه عن الوقت الذي يأخذه في التحضير لخطبته، كان رد الإمام عليه بأنه يحتاج إلى 47 ساعة خلال الأسبوع للتحضير.
عمل متواصل
يعقوب حاسيبي واحد من أولئك الذين يواصلون الليل بالنهار من أجل تحقيق صحوة إسلامية وسط الشباب الألباني، وكان حريصاً على تلبية كافة الدعوات التي توجه له لإلقاء محاضرة عن الإسلام و يستعد لذلك استعداداً كبيراً.
كان يحمل هم الشعب الألباني كله الذي فرقته الحدود إثر قرار تقسيم ألبانيا في عام 1913م. وكان حريصاً على إرسال الشباب إلى الدول العربية لتعلم الإسلام واللغة العربية للقيام يمهة الدعوة لدى عودتهم في مناطقهم، وفي ألبانيا وفور سقوط الشيوعية وفتح الحدود بين مقدونيا وألبانيا سافر على الفور إلى الأخيرة داعياً ومساعداً للشباب على السفر لاستكمال دراستهم الإسلامية في الخارج.
ولقد رأيت تلاميذه في ألبانيا غاية في النشاط مثل أستاذهم “الإمام” يتحركون للدعوة في كافة المناطق الألبانية وعن طريق إنشاء راديو يبث برامجه الإسلامية لكافة أرجاء هذه المنطقة ـفي أوساط التسعينات من القرن الماضيـ استطاعوا مع أستاذهم الإمام يعقوب توصيل رسالتهم الدعوية إلى أكبر عدد من الألبان الذين يقطنون في شمال غرب مقدونيا وجنوب كل من صربيا وكوسوفا وشرق ألبانيا .
ونظراً لنشاطه المتصاعد فلم تتركه الشرطة المقدونية -والتي كانت معظمها من السلاف الأرثوذكس- فكانوا دائمي التردد عليه و يحضرون مرة تلو الأخرى للقبض عليه بتهم لم يثبت أيا منها حتى الآن. وكثيراً ما كانوا يتعرضون له خلال سفرياته الدعوية بمنطقة البلقان بالتعطيل أو المنع أو القبض عليه في محاولة منهم لشل حركته الدعوية قدر الإمكان. وكان الإمام حين توضع أمامه الكثير من العقبات يستحضر أمام عينه إمام الدعاة وقدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم حين ضيق عليه قومه واضطره للهجرة من مكة إلى المدينة .
نجدته لإخوانه الكوسوفيين
وقد سجل له التاريخ موقف بطولي حين أرادت الحكومة المقدونية عدم استقبال اللاجئين من ألبان إقليم كوسوفا خلال حرب 1999م بحجة أنه ليس لديها مكان آخر في المخيم الذي أنشأته لهذا الغرض؛ الأمر الذي دفع بالإمام يعقوب حاسيبي إلى دعوة ألبان مقدونيا إلى التحرك الفوري نحو الحدود الكوسوفية المقدونية لاستقبال هؤلاء اللاجئين في بيوتهم، وحين أرادت الشرطة المقدونية منعهم من ذلك حدث اصطدام بين الطرفين تحرك على أثره كافة الألبان من القرى وقاموا بسد كافة الطرق لمنع وصول قوات الشرطة والجيش المقدوني إليهم وعبر الجبال والطرق الأخرى قام ألبان مقدونيا باستضافة إخوانهم من ألبان كوسوفا الفارين من المذابح وحملات التطهير العرقي التي قام بها الصرب في كوسوفا.
دفاعه عن أرضه
ولقد شاءت الأقدار أن يتحمل الإمام يعقوب مسئولية الدفاع عن قومه و كان يسعى دائماً نحو تحريك الألبان للانتفاض طلباً لحقوقهم المدنية المشروعة التي كانت السلطات الرسمية ترفض الاعتراف بها، وفور انتهاء الحرب في كوسوفا بدأت تتضح نية الحكومة المقدونية التي يسيطر عليها المقدون “السلاف الأرثوذكس” في عدم السماح للألبان “المسلمين” في الاستمرار في طلب حكوماتهم.
و في عام 2001م تفجرت الحرب بين الطرفين وعلى الفور ارتدى الإمام يعقوب الزي العسكري مطالباً كافة الشباب أتباعه بالانخراط في جيش التحرير الوطني للدفاع عن مناطقهم الألبانية وقاد بنفسه هؤلاء الشباب في منطقته خلال دفاعهم عن قريتهم ” سلوبتشان ” بغرب مقدونيا والتي كانت أول منطقة هاجمتها قوات الجيش و الشرطة المقدونية -مستخدمة الدبابات والطائرات- لعلمهم بنشاط الإمام يعقوب في هذه المنطقة و سعيه الدائم لتحريك أهلها للمطالبة بحقوقهم المشروعة.
وبالرغم من شدة الهجوم من قبل الجيش المقدوني وتدميره لمعظم بيوت القرية ولم يبق من ستمائة بيت في القرية سليماً سوى ثمانية فقط -في محاولة منه للقيام بحملة تطهير عرقي وإجبار الألبان على الرحيل من ديارهم على نمط ما قام بها الصرب من قبل في البوسنة وكوسوفا- إلا أن ثبات الإمام و تثبيته للشباب حوله ورفضهم الخروج من القرية كان له أكبر الأثر في إفشال هذا المخطط واضطرت القوات المقدونية على إثر ذلك إلى التراجع.
وفاته
هذا هو الإمام والداعية والخطيب المفوه “يعقوب حاسيبي” الذي مشى في يوم جنازته أكثر من 20 ألف من الألبان -هم من استطاع الحضور سريعاً من مقدونيا وخارجها من مختلف دول البلقان وأوروبا- فور سماعهم نبأ وفاته في حادث بالسيارة على طريق محافظته ” كومانوفا ” والعاصمة المقدونية ” اشكوب ” في 7 يناير 2006م حيث تم الصلاة عليه ودفنه في اليوم التالي مباشرةً بقريته.
ووصفته المشيخة الألبانية الإسلامية بمقدونيا بأنها فقدت: “مدافع كبير عن الإسلام في المناطق الألبانية “.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: إسلام أون لاين.نت