مسلمون حول العالم
نافذتك إلى أخبار الأقليات المسلمة

أوكرانيا.. مصحف يتحدى تحديات الزمان ويُعلن صمود الهوية الإسلامية في زابوروجيا

ظهرت للنور نسخة قديمة من المصحف الشريف وكتاب "قصص الأنبياء" مكتوبين باللغة التتارية بالأبجدية العربية

مسلمون حول العالم ـ خاص ـ هاني صلاح

وسط تقلبات التاريخ وتبدّل الأنظمة وطمس الهويات، خرج إلى النور في مدينة زابوروجيا الأوكرانية مصحف عتيق وكتاب “قصص الأنبياء”، كأنهما شهادة حيّة على أن هويةً راسخة لم تنكسر، وأن نور القرآن لا يُطفأ مهما اشتدت العواصف.

باللغة التتارية بأحرف عربية

الكتب، المكتوبة باللغة التتارية بأحرف عربية، تجاوزت قرنًا كاملًا من الحفظ في كنف عائلة مسلمة، لم تسمح للزمان أن يسرق منها تراثها. كانت الجدة فاطمة كاشايفا، المولودة عام 1880، تقرأ تلك الصفحات وتبث فيها الحياة، تهمس بكلمات القرآن لأبنائها وأحفادها، رغم ما عايشته من تقلبات سياسية وحروب عالمية ومحاولات ممنهجة لطمس الدين واللغة والهوية.

في عام 1973، رحلت فاطمة عن الدنيا بعد 93 عامًا من الإيمان العميق، لكنها تركت إرثًا لم تبتلعه الذاكرة، بل ظل محفوظًا بأمانة حتى جاء اليوم الذي أعادت فيه حفيدتها، رافزة بيشورينا، تلك الكتب إلى المسجد الإسلامي في زابوروجيا، ليكونا شاهدين على صمود أسرة.. وجيل.. وهوية.

هذا المصحف لم يكن مجرد صفحات قديمة، بل وثيقة بقاء. مرّ على الحروب، على الحظر، على العقود الرمادية، ومع ذلك، لم يُمحَ اسمه، ولم تُنسَ كلماته.

واليوم، وبعد مرور عقود، وفي لفتة مؤثرة، قامت حفيدتها رؤوفة بيشورينا بتسليم هذه الكتب للمسجد كي تظل مصدر خير وعلم للمجتمع، وصدقة جارية لروح جدتها وأسرتها.

الصدقة الجارية.. حين تتحول الكتب إلى جسرٍ بين الأجيال

تبرع الأسرة بهذه الكتب النادرة لا يُعد مجرد لفتة شخصية، بل يعكس وعيًا دينيًا عميقًا بمفهوم الصدقة الجارية، التي يمتد نفعها عبر الزمن. فحين تُهدى كتب القرآن والتفسير إلى المسجد، فإنها لا تحفظ فقط في الرفوف، بل تُبعث في قلوب جديدة، وتتحول إلى مصدر علم وهداية مستمر، يُثري الحاضر ويصل الماضي بالمستقبل.

المسجد.. منبر عبادة ومتحف هوية

ويأتي هذا الحدث ليؤكد على الدور المتنامي للمساجد في أوكرانيا، التي لم تَعُد تقتصر على كونها بيوتًا للصلاة، بل أصبحت مراكز ثقافية وذاكرات حية تحفظ تراث المسلمين. فالمسجد في زابوروجيا، باستقباله هذا الإرث، يؤسس لرؤية أوسع للمؤسسة الدينية كمكان يجمع بين الإيمان، والتاريخ، والهوية، ويمنح الجالية المسلمة شعورًا بالانتماء والاستمرارية في وطن متعدد الثقافات.

المصحف الثاني من نوعه في أرشيف المسجد

ويُعد هذا المصحف الثاني من نوعه في أرشيف المسجد، بعد مصحف سابق نجا من الحروب وتعاقب الأجيال وتغيرات الزمن، دون أن تفقد هذه الكتب قدسيتها ومكانتها.

إدارة المسجد دعت الله أن يتقبل هذه الهدية المباركة، وأن يرزق الرحمة والبركة للأسرة التي صانتها، وختمت بالدعاء: “اللهم اجعلنا من أهل القرآن”.

تعليق إدارة موقع "مسلمون حول العالم" على قصة المصحف العتيق في زابوروجيا

هذا الخبر لا يوثق مجرد تبرع بمصحفٍ قديم، بل يسرد واحدة من أبلغ روايات الصمود الإيماني والروحي، حيث تتجسد في طياته قصة إيمانٍ متوارث، وحبٍ للقرآن، واستمراريةٍ لهوية إسلامية بقيت حيّة رغم التحولات الجذرية التي عصفت بأوكرانيا والمنطقة عبر العقود.

وتنبع أهمية هذه القصة من أبعاد متعددة دينية وثقافية وإنسانية، أبرزها:

1. قيمة التراث الإسلامي في أوكرانيا: القصة تسلط الضوء على عمق الحضور الإسلامي في أوكرانيا، ليس فقط كمجتمع ديني معاصر، بل كجذور ممتدة في التاريخ، ما يكرّس الوعي بضرورة الحفاظ على هذا التراث والاعتزاز به في وجه محاولات الطمس والنسيان.

2. الربط بين الأجيال عبر القرآن: المصحف وكتاب “قصص الأنبياء” لم يكونا مجرد كتب، بل جسرًا حيًّا بين أجيال متعاقبة، حيث حفظتهما الجدة، وورثتهما الحفيدة، ليعودا في نهاية المطاف إلى المسجد. إنها رسالة قوية بأن القرآن هو الرابط الأبقى الذي لا يُفك مهما تباعدت الأزمنة أو تبدّلت الظروف.

3. رمزية البقاء والصمود: أن ينجو كتاب قرآن من الحروب، ومن سياسات المحو والتهميش، ومن تغيّر العصور والأيديولوجيات، ثم يُعاد اليوم إلى صدر المسجد بكل وقار، فذلك يرمز إلى أن الهوية الإسلامية قادرة على النجاة، وأن جذوة الإيمان لا تنطفئ، خصوصًا في مجتمعات الأقليات المسلمة التي تخوض معارك وجودية ناعمة للحفاظ على دينها ولغتها وتراثها.

إنها قصة لا تروى بالحبر فقط، بل تنبض بالإيمان، وتُكتب بروح الذين تشبثوا بالقرآن حتى في أزمنة الصمت.

 

التخطي إلى شريط الأدوات