
مسلمون حول العالم ـ خاص ـ هاني صلاح
بينما ينتصف شهر رمضان، حيث تعلو الهمم وتسمو الأرواح في أجواء الطاعة والعبادة، جاءتني دعوة خاصة من فضيلة الشيخ أرمير جانا، مفتي محافظة كرويا، لننطلق معًا في جولة ميدانية نستكشف من خلالها كيف يعيش أهل كرويا هذا الشهر المبارك، حيث تفيض المساجد بالمصلين، وتعانق القرى والمدن روحانية الصيام والقيام، وسط أجواء عامرة بالإيمان والتلاحم الاجتماعي.
وفي صباح يوم الجمعة 14 مارس 2025م، الموافق 14 رمضان 1446هـ، انطلقت رحلتنا الرمضانية برفقة فضيلة الشيخ أرمير جانا، مفتي محافظة كرويا. كان اللقاء الأول عند مقر المشيخة الإسلامية في قلب العاصمة تيرانا، ذلك المبنى التاريخي العتيق الذي يُعد رمزًا للتراث والعمارة الإسلامية، حيث استهلنا يومنا المفعم بالأمل والروحانيات.
المحطة الأولى: قرية تابيزا – صلاة الجمعة وحديث مع مؤذن المسجد
كانت أولى محطاتنا في قرية تابيزا، حيث قصدنا مسجدها الذي يتوسط البلدة، تحيط به الأشجار، ويغمره هدوء فريد يمنح الداخل إليه شعورًا بالسكينة. رغم بساطة المبنى، فإن للصلاة فيه طعمًا خاصًا، وكأن الروح تأنس بأجوائه الإيمانية.
هناك، ارتدى الإمام فضيلة الشيخ أرمير ثوبه الرسمي واعتلى المنبر ليُلقي خطابًا استثنائيًا جمع فيه بين معاني الإيمان والسلوك الحسن في شهر الصوم. كما استحضر مؤذن المسجد ذكريات بناء المسجد في عام 1992، حينما ساهمت جهود من المشيخة الإسلامية ومؤسسات عربية خليجية في إقامة معلم أصبح اليوم فخرًا للمجتمع واستذكارًا لبداية الصحوة الإسلامية بعد عقود من الصمت.
امتلأ المسجد بالمصلين، داخل أروقته وساحاته الخارجية، رغم كونه مسجد قرية صغيرة، في مشهد يعكس بوضوح الصحوة الإسلامية المتنامية في ألبانيا. هذا التجمع الكبير يعبر عن العودة القوية إلى الهوية الإسلامية التي بدأ ينمو أفقها من جديد بعد أكثر من ثلاثة عقود على سقوط الشيوعية في أوائل تسعينيات القرن الماضي، حيث كان الدين محاصرًا، واليوم يزدهر بحرية، لتعود الحياة الروحية بكل قوة إلى قلوب الناس، ويستعيد المسلمون هنا أصولهم وقيمهم الإسلامية بكل فخر واعتزاز.
بعد الصلاة، اقترب مني مؤذن المسجد، رجلٌ بدت على ملامحه علامات الفخر والتأثر، ليحدثني بشغف عن قصة بناء هذا المسجد. روى لي كيف بدأ حلمه في عام 1992، حين لم يكن في المنطقة أي مسجد يُذكر. فكان يواجه تحديات كبيرة في الحصول على التراخيص اللازمة. لكن عزيمته لم تتوقف، حيث وقفت المشيخة الإسلامية الألبانية إلى جانبه وساعدته في استخراج الأوراق الرسمية، بينما تكفلت إحدى المؤسسات الخليجية بتمويل بناء المسجد.
اليوم، أصبح هذا المسجد رمزًا للهوية الإسلامية في المنطقة، ومصدر فخر لمسلميها الذين يتجمعون فيه للصلاة والذكر، مستعيدين بذلك جذورهم الإيمانية بكل اعتزاز.
المحطة الثانية: جامع آراميراس – لقاء الأئمة وتبادل الخبرات
بعد انتهاء الحوارات بين مفتي المحافظة وبعض رواد المسجد، انطلقنا إلى جامع آراميراس الكبير، الذي يهيمن بعظمته على الطريق الدولي الرئيسي بين العاصمة تيرانا والشمال الألباني. يتميز المسجد بمنارتيه الشامختين والطابقين الرفيعين، ليشكل معلمًا بارزًا يشعر كل من يراه بالفخر بعزة الإسلام.
في هذا الجامع الرائع، اجتمع أئمة مساجد المحافظة في اللقاء الشهري المعتاد تحت إشراف المفتي. كان اللقاء غنيًا بالمناقشات العميقة حول التحديات والاحتياجات التي تواجه المساجد في المنطقة. تبادل الأئمة الخبرات وأكدوا على أهمية التعاون بين المساجد لتحقيق النجاح في خدمة المجتمع وتعزيز الرسالة الإسلامية في القرى والمدن على حد سواء.
اختتم اللقاء بصلاة العصر، التي أضفت على الأجواء جوًا من الخشوع والتأمل، ليواصل الجميع بعد ذلك التوجه إلى المحطة التالية في برنامجنا الرمضاني.
المحطة الثالثة: مدينة كرويا الجبلية – وحديث مع نائب المفتي حول الأنشطة الخيرية
في محطتنا الثالثة، توجهنا إلى مدينة كرويا الجبلية التاريخية، التي تُعد معقل البطل القومي الألباني، اسكندر بك. المدينة تحتضن قلعتها المهيبة التي تطل على المدينة، حيث يقع بداخلها أطلال جامع السلطان محمد الفاتح. وتحت أسوار هذه القلعة الشاهقة، وعلى الطريق المؤدي إليها، تتناثر أجمل بازارات ألبانيا القديمة، وفي مقدمتها جامع السوق الأثري، الذي يُعتبر من أبرز معالم الحقبة العثمانية. في الطابق الثاني من هذا المسجد العتيق، يقع مكتب دار الإفتاء لمحافظة كرويا.
فور دخولنا للمسجد، صعدنا إلى مكتب دار الإفتاء، حيث استقبلنا الدكتور ساري فوشا، إمام المسجد ونائب المفتي، وهو طبيب حاذق ومتطوع في خدمة المجتمع. كان الدكتور ساري مشغولًا بمتابعة الأنشطة الخيرية التي يشرف عليها في المدينة، وقد أخبرنا أنه قبل يومين، قام بتوزيع أكثر من 200 حقيبة رمضانية تحتوي على مستلزمات أساسية للعائلات المحتاجة في رمضان، بالتعاون مع جهات مانحة دولية في ألبانيا.
في حديثه، شدد الدكتور ساري على أهمية مشروع الحقائب الرمضانية، مشيرًا إلى أنه لا يجوز ترك المحتاجين دون دعم، خاصة في هذا الشهر الفضيل، حيث يجب أن يكون العطاء جزءًا من تراث المجتمع وتعزيزًا لقيم التضامن بين أفراده.
بعد هذا الحديث الملهم، تركت المفتي ونائبه لمتابعة أعمالهما الخيرية، بينما نزلت إلى المسجد العتيق. بمجرد دخولي، شعرت بجو من السكينة والطمأنينة يصعب وصفه. كان بعض المصلين يتلون القرآن الكريم، بينما انشغل آخرون بأداء ركعتي تحية المسجد، قبل أن ينطلقوا في رحلة إيمانية أخرى مع تلاوة سور القرآن الكريم.
المحطة الرابعة: قرية بوريزانا – إفطار الأئمة ونكهة الإخاء
مرت الساعات سريعًا، وها نحن نواصل برنامجنا الرمضاني في محافظة كرويا. انطلقنا إلى قرية بوريزانا حيث دعانا إمام المسجد، فضيلة الشيخ الطون هاجري، لإفطار جماعي لأئمة المحافظة في إحدى المطاعم المميزة القريبة من المسجد. بمجرد وصولنا، أدى الجميع صلاة المغرب في الطابق الأول من المطعم، قبل أن نتوجه إلى الطابق الثاني حيث كانت مائدة الإفطار قد أُعدت بحفاوة.
تحولت هذه اللحظات إلى واحة من السعادة والسرور، حيث اختلطت الأجواء الرمضانية مع مشاعر الأخوة والمحبة. كان الجميع يتبادلون الحديث والضحكات في جو من التآلف، فيما تعكس ملامح اللقاءات الإيمانية طابعًا من التعاون والتضامن بين الأئمة. وقد تجسد هذا اللقاء صورة حقيقية للنهضة الإسلامية في محافظة كرويا، التي تشهد إقبالًا غير مسبوق على المساجد وصلاة الجماعة، في مشهد يعكس الوعي الديني المتزايد والعودة القوية إلى الهوية الإسلامية.
ومع اقتراب موعد صلاة العشاء، كان أمامنا خيار مهم؛ كان من المفترض أن أصلي التراويح مع فضيلة المفتي في قرية تابيزا، لكن أحد الأئمة دعاني للمشاركة في صلاة التراويح في مسجد قرية فوش كرويا، الذي يترأسه إمام قدير في المحافظة، فضيلة الشيخ محرم فرانا. شجعني المفتي على الذهاب معهم، وكانت فرصة لا يمكن تفويتها.
كانت هذه المحطة تأكيدًا آخر على روح التعاون والمشاركة التي تميز الأئمة في محافظة كرويا، حيث يتعاونون في كل جانب من جوانب العمل الإسلامي، ويسهمون في نشر النور في قلوب المجتمع، ويعززون من قيم الأخوة والتضامن بين جميع أفراد المنطقة.
المحطة الخامسة: مدينة فوش كرويا – سحر التراويح ونسمات الروحانيات
اختتمنا يومنا بزيارة إلى مدينة فوش كرويا، حيث شهدنا صلاة العشاء والتراويح في مسجدها الذي يعد الأقدم في المنطقة. بعد أداء ركعتين قبيل العشاء، ألقى إمام المسجد، فضيلة الشيخ محرم فرانا، كلمة مؤثرة تناولت سلوكيات المسلم في رمضان، وسط حضور جماعي هادئ ومفعم بالتركيز والخشوع. كانت أجواء المسجد محملة بنسمات روحانية يصعب وصفها، حيث ساد المكان جو من الهدوء الشديد والاهتمام العميق بمفاهيم الشهر الكريم.
في تلك الليلة الرمضانية، كان المسجد يغمره جو من الخشوع والروحانية التي لا تُضاهى. بدأ المصلون الصلاة مع أولى ركعات التراويح، وأصروا على البقاء حتى آخر ركعة، حيث كانت كل حركة وكل كلمة مشحونة بالإيمان. كان الشيخ حاجي جيديقو يلقي كلمة رمضانية بعد أربع ركعات، يعمق بها معاني الشهر الفضيل، لتتبعها بعدها إمامة الشيخ فلامور مولاي للأربع ركعات الأخيرة. في تلك اللحظات، كان الجميع في غاية التركيز، وكانت قلوبهم تتفاعل مع الكلمات التي تغرس فيهم معاني رمضانية عميقة.
وعندما انتهت الصلاة، وقفت خارج المسجد، منتظرًا أحد الأئمة للعودة معي إلى القرية الأخرى حيث كان مفتي كرويا في انتظاري. وفي تلك اللحظة، فوجئت بالكثير من المصلين الذين لم أكن أعرفهم، يقتربون مني بابتسامات صافية ويصافحونني بحرارة، وكأننا أصدقاء منذ سنوات طويلة.
كانت تلك المصافحات، تلك الوجوه المبتسمة، تعكس مشاعر أخوية صادقة، روحانية نقية، وألفة تذيب الفوارق بين الناس. في تلك اللحظة، شعرت أنني جزء من هذا المجتمع، وأن روحانياتهم كانت أكبر من مجرد صلاة، بل كانت لحظات من التواصل الروحي الحقيقي.
لحظات الوداع لمدينة كرويا.. وانطباعات اليوم
في لحظات الوداع لمدينة كرويا العريقة، أدركت أن رمضان هنا ليس مجرد صيام وصلاة، بل هو قصة هوية حية، تتشابك فيها خيوط التاريخ العريق بروح الإيمان العميقة. كرويا، المدينة التي تحتضن أهلها في شهر رمضان، تعكس في كل زاوية منها نبضًا من المحبة والسكينة. هي ليست مجرد مدينة، بل قلب ينبض بالعطاء والتلاحم بين ضيوفها وأهاليها على حد سواء.
خلال وجودي هناك، لفت انتباهي حرص المفتي على لقاء المصلين في مساجد القرى التابعة لمحافظته. كانت زياراته تجسد التزامه العميق بالتواصل المباشر مع المجتمع المحلي، مما يعكس إيمانه بدور القيادة الروحية في تعزيز التلاحم المجتمعي. كما تجلى حرص الأئمة على تلبية دعوة المفتي للاجتماع الشهري، حيث شاركوا بنشاط في مناقشة الإشكاليات والتحديات، سعيًا جادًا لإيجاد الحلول الصائبة والحكيمة.
لكن التعاون لم يكن يقتصر على الاجتماعات الرسمية فقط؛ بل تجسد أيضًا في لحظات إنسانية رائعة. أحد الأئمة، على سبيل المثال، حرص على استضافة زملائه في مائدة إفطار تنبض بنكهة المحبة والإخاء، مما يعكس عمق الروابط الأخوية بينهم. كان التعاون بينهم يتخطى حدود المسؤولية، ليصبح سمة مميزة في خدمة مساجد القرى والمدن. وفي حال غياب أحدهم لأداء العمرة أو لملاقاة ظرف طارئ، كان الجميع يتبادل الأدوار لضمان استمرار العمل الدعوي والاجتماعي دون توقف.
هذه هي محافظة كرويا شمال العاصمة الألبانية تيرانا، حيث يتجلى ترابط الأئمة وتواصلهم المستمر مع رواد المساجد. كان هذا التعاون أساسًا في تنظيم الأعمال الخيرية والإنسانية، ويبرز دور دار الإفتاء وفريقها المميز من الأئمة والموظفين في خدمة المجتمع الإسلامي. إنها قصة حية عن العطاء والتآزر، وعمل جماعي يشكل نموذجًا يحتذى به في أي مكان.