أجواء البهجة والسرور التي يستشعرها مسلمو بلغاريا مع حلول شهر رمضان من كل عام؛ تنعكس على مئات من بيوت الله التي تتزين للمصلين وتمتلئ بهم خلال الشهر الفضيل، إلا أن هذه الفرحة لم تشترك فيها مساجد أخرى حرمت منها؛ حيث ما زالت أبوابها حتى اليوم مغلقة في انتظار من يأتي إليها ليفتحها ويعمرها بالقرآن الكريم، ويُقيم بها شعائر الصلوات الخمس، على الأقل خلال شهر رمضان.
فقد تسبب النقص الكبير في أعداد الأئمة التابعين لدار الإفتاء ببلغاريا مقارنة بأعداد المساجد في هذا البلد الواقع في أوروبا الشرقية، في استمرار إغلاق أكثر من 200 مسجد خلال شهر رمضان الحالي.
وفي هذا يقول مصطفى هاتشي المفتي العام للمسلمين في بلغاريا خلال اتصال هاتفي مع شبكة (إسلام أون لاين. نت): “عدد المساجد التابعة لنا في بلغاريا يصل إلى أكثر من 1500 مسجد، بينما عدد الأئمة التابعين لدار الإفتاء يصل لنحو 902 إمام”.
ويضيف: “وقد استطعنا بعد جهود كبيرة وبالتعاون مع كافة طلاب العلم ومن حظي بالحد الأدنى من التعليم الإسلامي من رواد المساجد أنْ نقيم شعائر الصلوات الخمس في نحو 1300 مسجد أثناء شهر رمضان، بينما ما زال أكثر من 200 مسجد مغلق حتى الآن لعدم توفر من يستطيع إقامة شعائر الصلاة بها”.
وحرصا منها على فتح أكبر عددٍ من المساجد خلال شهر رمضان، فقد قامت دار الإفتاء بتكليف طلاب وخريجي المدارس والمعاهد الإسلامية؛ بالإضافة إلى بعض من رواد هذه المساجد ممن يتمتع بحد أدنى من العلم الشرعي -بجانب الأئمة المعتمدين- لتولي مسئولية المساجد التي تقع في مناطقهم، وإمامة المصلين بها خلال شهر رمضان مقابل مكافأة رمزية.
بعد تاريخي.. واقتصادي
نقص عدد الأئمة وتسببه في استمرار غلق هذه المساجد أرجعه هاتشي إلى عامليْن:
أولهما: مرتبط بما سببته الحقبة الشيوعية، وقال المفتي: “خلال فترة الحكم الشيوعي لبلغاريا لم يكن مسموحا بالتعليم الإسلامي؛ لذا حدث هذا النقص الكبير في عدد الأئمة”.
وأشار هاتشي إلى جهودهم الحالية في معالجة هذا العامل عبر إعداد الدعاة في المعهد الإسلامي العالي بالعاصمة صوفيا، وإرسال البعثات الطلابية إلى الجامعات الإسلامية بالدول العربية، خاصة مصر والسعودية والأردن؛ بالإضافة إلى تركيا للدراسة بها.
العامل الثاني: اقتصادي، ويتمثل في عدم إمكانية دار الإفتاء توفير رواتب لهؤلاء الأئمة، ويوضح مفتي بلغاريا قائلا: “راتب الإمام يدفعه أهل القرية أنفسهم من خلال لجنة المسجد، وهو ما أحدث تفاوتا في رواتب الأئمة بحسب صغر أو كبر القرية التي يعمل بها”.
وتسبب هذا في امتناع كثير من الأئمة الذهاب للقرى الصغيرة لضعف رواتبها، وهو ما دفع بدار الإفتاء إلى “التدخل أحيانا وبحسب إمكاناتها لتوفير الفرق في الراتب للإمام؛ حرصا على استمراره في عمله بهذه القرى الصغيرة”، كما يوضح هاتشي.
وتعتمد ميزانية دار الإفتاء في بلغاريا بشكل كبير على أوقافها، ويشير هاتشي إلى أن دار الإفتاء قد نجحت حتى الآن في استرداد ما نسبته 15% من الأوقاف المصادرة.
ويضيف: “لقد ساعدنا ذلك في تأمين رواتب موظفي دار الإفتاء في العاصمة صوفيا، بجانب رواتب موظفي 16 إدارة إفتاء محلية في كافة أنحاء بلغاريا، فضلا عن رواتب مشرفي حلقات تعليم القرآن الكريم التي تتم في المساجد المختلفة طوال العام وخلال العطلة الصيفية، هذا بجانب المساعدة المالية التي تقدمها دار الإفتاء لترميم بعض مساجد القرى التي يعجز سكانها عن تحمل هذه المصروفات”.
خريجو المعهد
المعهد الإسلامي العالي في صوفيا والتابع لدار الإفتاء، يُعد المورد الأول للأئمة في بلغاريا بجانب خريجي الجامعات الإسلامية في تركيا والدول العربية الأخرى، ويمكنه عبر طلابه وخريجيه سد جزء كبير من هذا العجز في عدد الأئمة؛ إلا أن المشكلة تكمن في أنهم “لا يعملون بالإمامة بعد تخرجهم، نظرا لتدني الرواتب” بحسب هاتشي، وأشار إلى أن راتب الخريج منهم في حالة عمله كإمام بأحد المساجد يتراوح ما بين 300 إلى 400 يورو شهريا؛ بينما لو عمل في مجال البناء مثلا فإنه يتقاضى ما بين 1000 و1200 يورو، مما يجعل الكثيرين منهم ينصرفون إلى العمل في مجالاتٍ أخرى.
وتأسس المعهد في بداية التسعينيات كمعهدٍ متوسطٍ، ثم تحول إلى معهدٍ عالٍ في عام 1998م، ويدرس به حاليا نحو 80 طالبا وطالبة، كما يوجد في بلغاريا ثلاث مدراس إسلامية ثانوية خارج العاصمة صوفيا، في ثلاث محافظات مختلفة.
مشكلة نقص عدد الأئمة انعكست بدورها على تدريس مادة التربية الإسلامية بالمدارس الابتدائية الحكومية البلغارية؛ والتي أجاز القانون البلغاري تدريسها في العام 1997م.
وقال هاتشي في هذا الإطار: “بعض من مديري المدارس الابتدائية يرفض تدريس مادة التربية الدينية بزعم كثرة المواد الدراسية وعدم توفر الوقت الكافي لتدريس هذه المادة، بينما البعض الآخر من هؤلاء المديرين يرفض دفع رواتب لمدرسي مادة التربية الإسلامية؛ بحجة عدم وجود ميزانية لها”، وهو ما دفع بدار الإفتاء إلى التدخل بتحمل ما تستطيع من رواتب هؤلاء المدرسين.
عقبات.. وتفاؤل
الصعوبات والعقبات التي تواجه الصحوة الإسلامية في بلغاريا لم تزد هاتشي إلا تفاؤلا، فيعلق قائلا: “مستقبل الإسلام في بلغاريا سيكون مشرقا”، مستدلا على ذلك بـ”عودة الشباب البلغاري المسلم إلى التمسك بالإسلام من جديد؛ وتزايد إقباله على المساجد يوما بعد يومٍ خاصة خلال شهر رمضان”، كما أن كثيرا من الشباب الذين تلقوا تعليما إسلاميا؛ واشتغلوا في مجالات حياتية أخرى؛ فإنهم فور الانتهاء من عملهم؛ يعودون لأداء واجبهم الدعوي تجاه أقرانهم وأهل الأحياء التي يسكنون فيها.
وتحرص دار الإفتاء على التواصل مع هؤلاء الشباب وسماع آرائهم بصفةٍ مستمرةٍ، ويقول هاتشي: “في شهر أغسطس من كل عام، نعقد ندوة بمقر دار الإفتاء بصوفيا يحضرها جميع خريجي الجامعات الإسلامية من جميع البلدان؛ حيث نطرح مختلف القضايا التي تهم مسلمي بلغاريا للحوار معهم، ثم ننصت لآرائهم ومقترحاتهم حولها”.
ويبلغ عدد سكان بلغاريا حوالي سبعة ملايين ونصف المليون نسمة؛ وتصل نسبة المسلمين بينهم بحسب الإحصائيات الرسمية نحو 12% من تعداد السكان، بينما مصادر دار الإفتاء تقدرهم بحوالي 25%، وينتمي مسلمو بلغاريا من الناحية الاجتماعية والاقتصادية إلى الطبقات الفقيرة، فإن غالبيتهم من سكان القرى؛ حيث مستوى المعيشة منخفضٌ عن المدن البلغارية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إسلام أون لاين ـ 24 سبتمبر 2008 ـ هاني صلاح