مسلمون حول العالم ـ متابعات
بقلم/ د.عاطف معتمد، جغرافي وباحث ومترجم.
ما أبعد الهند وأقربها، الطريق الذي تقطعه من نيودلهي إلى تاج محل في مدينة أكرا شبيه بطريق زراعي في دلتا النيل، كأنك تسافر من ميت غمر إلى المنصورة أو من طوخ إلى طنطا.
الصباح الباكر هنا على الطريق الزراعي يعيدك أيضًا إلى النيل، فعلى مرمى البصر حقول أرز مغمورة بالمياه، وأقدام عارية تغوص في الطين، وفتيات نحيفات بزي مدرسي نظيف يسرن في مجموعات ضاحكة تبعدهن مسافات شبه فاصلة عن مجموعات الفتيان. وفي أقدام الفتيان والفتيات نشاط وعزم بأن الطريق إلى المدرسة ما يزال بعيدًا.
مراقبة السائق متعة أخرى، يطبع الرجل قبلات ثلاث على كف يده ثم يوصلها إلى تمثال صغير مثبت في مقدمة السيارة يتبرك به في السفر، سألت زميلي الهندي عنه فأخبرني أنه للمعبودة الهندوسية الشهيرة “مات دورغا”؛ راعية السفر وضامنة سلامة الطريق.
رحلة ريفية بامتياز في الشطر الغربي من ولاية أوتار براديش، أكثر ولايات الهند أهمية للحضور الإسلامي والثقل الثقافي والمعالم الأثرية.
مدينة أكرا
عند مشارف مدينة أكرا توقفت عند مسجد وضريح “جلال الدين أكبر”؛ حاكم الهند الشهير. المكان لا يمكن أن تُعبر عنه الكلمات من حيث تنسيق الحدائق، ممرات التجوال، النافورات والمسابح المائية، القباب والبوابات القوسية، الإتقان في النحت على صخور الرخام بتفاصيل مدهشة، تكييف الهواء الطبيعي داخل الغرف وفي الردهات وعبر الأروقة، صدى الصوت الذي يرتد إليك مرجفًا في الردهات وفي حجرة جلال الدين.
سأكتشف هنا – لأول مرة – أن ما نسميه “نجمة داود” الإسرائيلية ما هي إلا أحد معالم الزخرفة الإسلامية الرئيسة التي تزين ضريح ومسجد جلال الدين أكبر منذ أكثر من 400 سنة مضت.
حين وصلت إلى تاج محل وقفت مليًّا عند البوابة الحمراء غير مُصدّق تلك الأساطير التي تُحكى عن أن الملك شاهجهان أصدر أوامره بعد أن فرغ المعماريون من بناء هذا الأثر الخالد بقطع أيديهم وسلب أبصارهم، وفي مقدمتهم المهندس العبقري عيسى خان؛ حتى لا يبنوا هذه التحفة المعمارية لأحد من بعده. كان مبرر رفضي للحكاية الأسطورية أن من يبني قصرًا مهيبًا من أجل الحب والخلود لا يمكنه أن يرتكب شنائع القتلة والمجرمين.
المرور بالحدائق البديعة، والتأثر بدقة البناء، والاستماع إلى شرح المرشدين السياحيين، ومراجعة الكتب السياحية، كلها لا تساوي أن تجلس عند إحدى الزوايا الجانبية من التاج تستمتع في هذه البيئة الحارة الرطبة ببرودة المرمر الأبيض وأمامك الآيات القرآنية تزين إطارات البوابات (يمكن للحظة أن تنسى نفسك فتظن أنك تجلس على المرمر الأبيض البارد في المسجد النبوي أو الحرم المكي).
في الأفق القريب حول قصر تاج محل يمتد ذلك النهر الصغير المعروف بنهر يامونا هادئًا منعطفًا يتهادى دون عجل.
قصة هذا القصر رهينة بعام 1631 حين توفيت متأثرة بآلام الوضع السيدة “ممتاز محل”؛ الزوجة الثانية لإمبراطور الهند المسلم شاهجهان، فأراد الزوج المحب العاشق أن يخلد ذكراها ببناء يضم قبرها، فجند لتلك المهمة عشرين ألفًا من العمال والفنيين، تمكنوا بالكاد من إتمام البناء بعد 22 سنة كاملة. بأسعار اليوم تبلغ تكلفة البناء نحو 100 مليون دولار.
مسجد شاهجهان
في مكان لا يشغل بال السائحين كثيرًا إلى الغرب من قصر التاج، يقع المسجد الذي بناه شاهجهان، هذه المرة من الحجر الرملي الأحمر؛ ليصنع تباينًا لونيًّا مع هيمنة اللون الأبيض الرمادي للتاج ومناراته الأربع، لن يفوتك أن تصلي ركعتين في المسجد، أو تؤدي فريضة فيه من مطلع الشمس حتى غروبها.
مكان الوضوء تمثله بحيرة صناعية مربعة بين قاعدة التاج والمسجد. إمام المسجد وخادمه يقفان ببابه يرحبان بالمسلمين للصلاة، ويرشدان السائحين بخلع نعالهم. حدثني الإمام بعربية جيدة أنه تعلم في معهد إسلامي تابع لجامعة دار العلوم بشمالي دلهي، وما زال يحلم بالسفر إلى الأزهر. لم يكن هناك من داعٍ لسؤاله عن معاشه، فهندامه ينطق بالإنابة عن تواضع الحال.
وصلت هنا يوم الخميس وعرفت أن المشهد المهيب لمسجد تاج محل يحدث فقط يوم الجمعة، حين يحتشد الناس من تلك الأزقة الضيقة في مدينة أكرا وما حولها، فيأتون إلى مسجد تاج محل يصلون صلاة واحدة جامعة تشخص لها الأبصار.
غادرت أكرا بعد أن أخذت جولة في محالَّ تشبه خان الخليلي تبيع تحفًا مرمرية لنماذج مصغرة لتاج محل. كان فكري مشغولًا برؤية صلاة الجمعة هنا.
لا بأس، غدًا سيشرق يوم الجمعة في دلهي القديمة، وسأذهب إلى Jama Masjid أو “المسجد الجامع” الذي سبقني ابن بطوطة إلى الصلاة فيه ووصفه قبل 7 قرون مضت.
لا بد من العودة سريعًا إلى دلهي القديمة، والاستعداد من صباح الغد لرؤية أكبر وأهم مساجد الهند.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ من دفتر أدب الرحلة وزيارة إلى الهند عام 2005م.
https://www.facebook.com/atef.moatamed/posts/4015278101886074