مسلمون حول العالم ـ متابعات
بقلم/ د. عاطف معتمد، جغرافي وباحث ومترجم.
ليس أمامك خيارات كثيرة في التعرف على العاصمة المجرية بودابست، فكل شيء يبدأ هنا من كنيسة ماتياس التي يعود تاريخها للقرن الثالث عشر الميلادي. داخل الكنيسة قد تجذبك الأسقف المصممة على طراز الفريسكو والتشكيلات المختلفة للتصميم القوطي، واللوحات الزيتية المبهرة لقصص ومواقف من الإنجيل رُسمت على طراز عصر النهضة.
لكن الذي سيلفت انتباهك حقًّا أن هذه الكنيسة حوَّلها الأتراك خلال حكمهم – الذي دام نحو 160 سنة – إلى مسجد جامع. احتفظ الأتراك بكل شيء في الكنيسة ولم يعدلوا في الداخل أو الخارج سوى موضع المحراب والقبلة، ومن ثم كانت المهمة سهلة على المجريين حين أعادوا تحويل المسجد إلى كنيسة بعد تحرير بلادهم من الأتراك.
العمارة المسيحية هي المعلم الأساسي للمدينة، وكُتب الإرشاد السياحي تدلك على كنائس مختلفة الفرق والمذاهب، وستُجمع كافة المصادر السياحية المطبوعة والمرئية على ألا تفوتك زيارة ثاني أكبر المعابد اليهودية في العالم وأكبر المعابد اليهودية في أوروبا؛ ألا وهو “سيناجوج بودابست”.
في نهاية التجوال ستقلب كفيك وأوراقك، فالعمارة اليهودية اقتبست من الفن الإسلامي الكثير، والكنيس اليهودي ليس سوى نسخة طبق الأصل من مسجد مغاربي بمئذنتين. صحيح أن بعضًا من العمارة بنيت وفق الفن القوطي وعصر النهضة والتصميم الباروكي، لكن كثيرًا من المعمار يحمل بصمات شرقية: بيزنطية وتركية وإسلامية.
وسط هذا الزحام ستندهش حقًّا كيف لا تعثر على أية معالم إسلامية في مدينة تحكي صفحاتها عن الفترة الإسلامية التركية، حين حكم الإسلام المجر بين عامي 1541 و1699، ولك أن تُقدّر عدد المساجد التي أقيمت خلال تلك الفترة الطويلة قبل أن تُزال وينالها التدمير.
على بعد نحو ساعة من مركز المدينة، وبعيدًا عن أية معالم سياحية يقع المركز الإسلامي لمسلمي المجر في ضاحية “كيلينفولد”، بناية من ثلاثة طوابق بلا قباب أو مآذن، ولا يمكن تمييزها عن أية عمارة سكنية مجاورة.
مسلمو المجر
الصورة النمطية عن المسلمين هنا أنهم أقلية هامشية لا وزن لها، حيث لا يزيد عددهم عن 30.000 مسلم في بلد تعداده 10 ملايين، ويمكن تقسيمهم إلى فئتين: الوافدين من العرب والترك والبلقان وجنوب آسيا، وهؤلاء يمثلون الأغلبية بنسبة 90%، والمجريين الذين اعتنقوا الإسلام ويمثلون النسبة الباقية.
في المركز الإسلامي التقيت سلطان شولوك، وهو شاب مجري في نهاية العقد الثالث من عمره، يعمل في المجال الاقتصادي، اعتنق الإسلام حين كان في المرحلة الجامعية بعد رحلة بحث وقراءة انتهت إلى ديانة التوحيد.
يشغل شولوك منصب رئيس هيئة مسلمي المجر، ولديه وعي كبير بآمال وآلام المسلمين في الغرب بشكل عام. يلخص شولوك أهم آلام المسلمين في المجر في تدني المستوى الاقتصادي والثقافي؛ فمعظم مسلمي المجر يعانون من عدة مشكلات تجعلهم يمثلون عبئًا وليس مصدر قوة، فمستواهم المهني والمهاري ضعيف، وجاءوا إلى المجر هربًا من مشكلات اقتصادية وسياسية في أوطانهم، ويعانون من عدة مشكلات اجتماعية ونفسية تجعل التعويل عليهم في المستقبل مراهنة محفوفة بالمخاطر.
المفتاح الأساسي الذي سيقوي من موقع المسلمين في المجر – بحسب شولوك – هو تحسين صورتهم النمطية، فالمقولة السائدة لدى بعض القوميين المتشددين في المجر هي “حمدًا للرب أننا لسنا مسلمين”، وهو موقف يأتي نتيجة الحالة المتردية لعدد كبير من المسلمين في المجر اليوم، كما يعود جزء منه إلى الصورة المتحيزة التي ينقلها الإعلام المجري عن العالم الإسلامي.
حين تعود إلى كتب التاريخ لن يعطيك الحاضر مفتاحًا للماضي فحسب، بل يدلك على مقارنة صارخة؛ فعلى خلاف الصورة النمطية السائدة التي تربط الإسلام في المجر باللاجئين الفارين من الاستبداد والفقر، أو بالسيطرة التركية على جنوب شرق أوروبا خلال العصر الحديث، يؤكد عدد من المصادر التاريخية (وكثير منها مجري) أن المسلمين وصلوا إلى المجر ضمن أول موجات استيطان للقبائل المجرية التي هاجرت من منطقة الأورال وشمال بحر قزوين إلى حوض الكربات في نهاية القرن التاسع الميلادي (895 م).
أصيل لا وافدًا
كان عدد من المؤسسين الأوائل للدولة المجرية في القرن العاشر الميلادي من مسلمي خوارزم، ذلك الإقليم الذي مثَّل الامتداد الشرقي للخلافة العباسية في تلك الأثناء. وحين تم تحول القبائل المجرية إلى المسيحية في مطلع القرن الحادي عشر (بعد تعميد الملك المجري سان ستيفان) كان المسلمون في المجر تجارًا ورحالة وخبراء في العسكرية ومستشارين للقصر الملكي.
الإسلام هنا أصيل وليس وافدًا، إسلام نشأ في تربة المجر الأولى، ولم تكن فترة الحكم التركي خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر هي أول معرفة للمجر بالإسلام، كما لم تجلب هجرات العرب الحديثة إلى المجر الإسلام بصفته دينًا وافدًا على نحو ما يصور القوميون المجريون.
كنت محظوظًا أن حل على مسجد المركز الإسلامي في بودابست ضيف مهم، فقيه ينطق بلسان عربي مبين. انفض المسؤولون عني وراحوا يرتبون لقاء الداعية العربي بمجموعة من المسلمات المجريات عنوانه “تربية الأسرة المسلمة في مجتمع أوروبي”.
كان الموقف شيقًا للغاية، المسلمات المجريات يتقدمن بأسئلة إلى الداعية عبر ترجمان ينقل الحوار بين اللغتين، ورغم أنني لا أعرف المجرية فإنه كان واضحًا أن كليهما يستحق الشفقة؛ فالداعية حديث عهد بالمجتمع الأوروبي، وربما هذه أول زيارة له لبلد أوروبي، ومن ثم كانت خبراته فقيرة للغاية. انهالت على الرجل الأسئلة المربكة: كيف توفِّق بين ما تلقنه لأبنائك في البيت وما يتلقَّونه من قيم ومبادئ علمانية في المدرسة والجامعة؟ ما هي الحجج العقلية التي يمكن أن تسوقها الفتاة المسلمة في سن المراهقة لزميلاتها اللائي يفتخرن بعلاقتهن الجنسية مع الشباب؟ كيف تصبح مسلمًا ومواطنًا مجريًّا في آنٍ؟
الداعية العربي المسكين كان يقدم إجابات “سابقة التجهيز” تعلَّمها وتدرَّب عليها في مجتمع محافظ بطبيعته، إجابات تحيلك إلى ما هو “نقلي” لا “عقلي”. ولأن المترجم من العربية إلى المجرية كان عربيًّا من الذين عاشوا في المجر لعقدين، ولديه فهم أكثر للواقع، فقد سمح لنفسه بتحويل الإجابات المقتضبة غير الشافية إلى إجابات مسهبة في نسختها المترجمة، وبينما كانت إجابة الداعية عن كل سؤال تأخذ نصف دقيقة، استغرقت الترجمة إلى المجرية نحو خمس دقائق!
لماذا لا يصبح المترجم داعية؟ جاءتني الإجابة: ألا ترى الداعية بزيه الإسلامي ولغته العربية ولحيته الطليقة؟! المسلمون هنا يعتقدون أن الداعية الحق هو من يأتيهم من قلب ديار الإسلام، السعودية، اليمن، والأزهر.
بدا أنه لكي يكون الشيء “مقدسًا”، لابد أن ينطق بلسان “عربي” مبين، وهو مطلب يبدو أنه ارتبط بحسن قراءة القرآن أكثر مما ارتبط بحسن قراءة الواقع.
خرجت من المركز أودع الأصدقاء الجدد، وحين أعربت لهم عن أمنيتي لو كان المركز مسجدًا بمعالمه الروحية، حيث القبة والمئذنة والباحة والأسوار الخارجية، نصحني الأصدقاء بالسفر إلى بلدة “بيهتش” في جنوب المجر – على بعد نحو 300 كلم من العاصمة بودابست – وهناك سأرى ما لم تره عين من قبل.
إلى بيهتش إذن!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ من دفتر الرحلة وتجوال بين المدن المجرية في عام ٢٠٠٩م
https://www.facebook.com/atef.moatamed/posts/4017732871640597