
مسلمون حول العالم ـ خاص ـ هاني صلاح
بريشتينا – في حدث ثقافي فريد من نوعه، شهدت العاصمة الكوسوفية بريشتينا افتتاح المعرض الدولي “الجسور” (Urat)، الذي يستعرض للمرة الأولى في كوسوفا ملامح من تراث المملكة العربية السعودية وثقافتها العريقة.
المعرض الذي افتتح اليوم بتنظيم مشترك بين المشيخة الإسلامية في دولة كوسوفا ووزارة الشؤون الإسلامية في المملكة العربية السعودية، يشكل نافذة حية على التاريخ والتقاليد والهوية الثقافية السعودية، ويتيح لزواره فرصة نادرة لاكتشاف كنوزها الروحية والحضارية.
في أجنحة المعرض المتنوعة، يتنقل الزائر بين محطات تاريخية وثقافية تشمل عرضًا للحياة في المملكة، وتاريخ مكة المكرمة، ومخطوطات نادرة من مكتبتها العريقة، إلى جانب إصدارات المصحف الشريف، والمسابقات الدولية لحفظ القرآن الكريم، وجماليات الخط العربي، فضلاً عن تجربة تفاعلية مميزة باستخدام تقنيات الواقع الافتراضي تُمكن الزائر من الإحساس بروحانية الوقوف عند الكعبة المشرفة.
وفي كلمته خلال الافتتاح، أكد فضيلة الشيخ الدكتور نعيم ترنافا، رئيس المشيخة الإسلامية في دولة كوسوفا، ومفتي البلاد، أن هذا التعاون الثقافي بين كوسوفا والمملكة العربية السعودية يعكس عمق العلاقات بين الشعبين، ويُعزز من حضور القيم الإسلامية في الفضاء العام.
من جهته، أشار رئيس حكومة تصريف الأعمال، ألبين كورتي، إلى أن المعرض يُجسد “جسرًا من التعاون” بين بلدين يجمعهما الاحترام المتبادل والرغبة في بناء شراكات ثقافية وروحية. أما رئيس بلدية بريشتينا، برپاريم راما، فرأى في هذا الحدث “دعوة للتأمل في القيم التي توحّد الشعوب”، معتبرًا أن المعارض الثقافية تتجاوز البعد الفني لتؤسس لحوار حضاري بنّاء.
وفي كلمة ألقاها باسم الجانب السعودي، أكد أحمد الحارثي، نائب سفير المملكة في تيرانا، أن معرض “الجسور” يأتي في سياق توسيع قنوات التواصل الثقافي بين السعودية والعالم، مؤكدًا حرص المملكة على مدّ جسور المعرفة والانفتاح.
ويستمر المعرض مفتوحًا أمام الجمهور حتى العاشر من مايو الجاري، داعيًا سكان كوسوفا وزوارها إلى التعرّف على ألوان وثقافات وعطور الجزيرة العربية، في قلب العاصمة بريشتينا.
دلالات ثقافية ودينية تتجاوز العرض البصري
افتتاح المعرض الدولي “الجسور” (Urat) في العاصمة الكوسوفية بريشتينا لا يُعدّ مجرد تظاهرة فنية تُعرّف بثقافة المملكة العربية السعودية، بل هو حدث متعدد الأبعاد، يحمل في طياته دلالات ثقافية وروحية وسياسية عميقة، خاصة في سياق العلاقات بين كوسوفا والعالم الإسلامي.
أولًا: جسر ثقافي بين الهامش والمركز
من الناحية الثقافية، يمثّل هذا المعرض حضورًا نادرًا للثقافة العربية الإسلامية في منطقة البلقان، التي لطالما عاشت على أطراف التأثير المباشر للعالم العربي. لقد جاءت المبادرة لتفتح نافذة حضارية جديدة تُعرّف الجمهور الكوسوفي، وبخاصة الأجيال الشابة، على تفاصيل دقيقة من الثقافة السعودية، بما في ذلك المخطوطات، الخط العربي، الطقوس، والعادات الاجتماعية. وهي بهذا تصوغ “جسرًا ثقافيًا” حقيقيًا يربط الهامش الجغرافي في كوسوفا بالمركز الروحي والثقافي للعالم الإسلامي.
ثانيًا: ترسيخ الهوية الإسلامية الجامعة
أما من الناحية الدينية، فإن رمزية مكة المكرمة، والمصحف الشريف، وتقنيات الواقع الافتراضي التي تُمكّن الزائر من “الاقتراب” من الكعبة، تُسهم في تعزيز البُعد الروحي والانتماء الإسلامي لدى مسلمي كوسوفا. في سياق ما بعد الحروب والتحولات السياسية، حيث تعرّضت الهوية الدينية في كوسوفا لمحاولات تهميش، يمثل هذا المعرض فعلَ ترسيخ للذاكرة الإسلامية المشتركة، ومشاركة وجدانية في رمزيتها.
ثالثًا: المشيخة الإسلامية كفاعل ثقافي
تكمن أهمية هذا المعرض أيضًا في إبراز دور المشيخة الإسلامية في دولة كوسوفا كراعٍ ليس فقط للشؤون الدينية، بل كمؤسسة ثقافية تلعب دورًا نشطًا في إعادة وصل المسلمين الكوسوفيين بالثقافة الإسلامية العالمية. فالمشيخة هنا لم تُقدّم فقط دعمًا لوجستيًا، بل أظهرت رؤيتها لديناميكية الإسلام المعاصر، بوصفه جسرًا بين الثقافات، لا عائقًا أمامها.
رابعًا: توازن بين المحلي والعالمي
يُعيد معرض “الجسور” التأكيد على أهمية الانفتاح على الآخر الإسلامي من موقع الندية والاحترام المتبادل، لا من موقع التلقي السلبي. فالعرض الثقافي السعودي جاء في سياق احتفائي، لكنه لم يلغِ الخصوصية الثقافية المحلية. وهنا يتحقق نوع من التوازن الدقيق بين المحلي والعالمي، بين الانتماء الوطني والانتماء الأممي.
خامسًا: إعادة الاعتبار للثقافة كأداة دبلوماسية
يُشكّل هذا الحدث أيضًا مظهرًا من مظاهر “الدبلوماسية الثقافية” التي بدأت تعتمدها السعودية في علاقاتها الدولية، خصوصًا مع المجتمعات الإسلامية خارج الوطن العربي. ومن خلال الثقافة، يتم بناء خطاب غير سياسي، لكنه عميق التأثير، يتسلل إلى القلوب والعقول بدون وساطة اللغة الرسمية أو البروتوكول السياسي.
خاتمة
ليس المعرض مجرد مساحة بصرية لعرض الصور والتحف، بل هو مساحة روحية وثقافية لإعادة بناء الجسور التي تقطّعت، وفتح آفاق جديدة لفهم الذات والانتماء والتواصل. إن “الجسور” التي وُضعت في قاعة المعرض ببريشتينا، تمتد في الحقيقة نحو المستقبل، حيث يصبح التلاقي الثقافي أداة لفهم أعمق، وسلام أكثر رسوخًا.