مسلمون حول العالم
نافذتك إلى أخبار الأقليات المسلمة

وهبي إسماعيل حقي.. الجمع بين ثلاثة أوطان وثلاث ثقافات

مقال يلقي الضوء على عطاء الشيخ وهبي إسماعيل في خدمة الإسلام والمسلمين إماما وقائدا دينيا وأديبا ومترجما

مقال يلقي الضوء على عطاء الشيخ وهبي إسماعيل

 في خدمة الإسلام والمسلمين إماما وقائدا دينيا وأديبا ومترجما

مسلمون حول العالم ـ متابعات

ـ بقلم/ الدكتور مجدي سعيد ـ كاتب صحفي مقيم في لندن

في تاريخ أمتنا الحديث شخصيات نادرة توزعت حياتها بين أوطان مختلفة، وتبعثرت إسهاماتها بين لغات، وخدمت ثقافات ومجتمعات عدة، ويحتاج التأريخ لها أن يتمتع المؤرخ بقدر من التعمق في تلك الثقافات وهاتيك اللغات والإلمام بتواريخ تلك الأوطان التي عاشت فيها تلك الشخصيات، ولأن هذا أمر عزيز فغالبا ما لا يستطيع واحد من المؤرخين بمفرده أن يضطلع بمهمة تقديم تاريخ واف لحياة تلك الشخصية.

والشيخ الإمام، الأديب والمترجم، وهبي إسماعيل حقي (1919 – 2008) هو واحد من تلك الشخصيات النادرة، والذي أتذكر أنني كنت أطالع اسمه بين الحين والآخر في بعض المجلات الإسلامية التي كنت أطالعها في شبابي، ثم كان أن صادفت اسمه أثناء بحثي على الإنترنت في تاريخ الإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة، فوضعت اسمه ضمن قائمة الشخصيات التي أرغب في البحث عن المزيد من المعلومات عنها لأقدمها ضمن مقالات الجزء الرابع من سلسلة “قصص ومعان”. وبالتأكيد فإنني لا أزعم أنني ذلك المؤرخ الذي يستطيع أن يلم بمراحل حياته وإسهاماته، لكنني أقدم هنا إضاءة لعلها تلهم من هم أقدر مني على القيام بالمهمة على وجهها الأكمل.

هناك قدر مشترك من المعلومات المتاحة في معظم المصادر العربية والإنجليزية عن الرجل نعلم منها أنه قد ولد في مدينة شكودرا في نوفمبر من عام 1919، وشكودرا هي إحدى أقدم المدن في المناطق الألبانية في البلقان، وتقع في شمال ألبانيا الحالية. كان والده إسماعيل حقي إماما معروفا في المدينة التي تعرضت لاحتلالات كثير في فترة الحرب العالمية الأأولى التي ولد فيها وهبي. كان والده فضلا عن إمامته إنسانا مثقفا يمتلك مكتبة غنية بآلاف الكتب في اللغات العثمانية والفارسية والعربية، وكان يكتب الشعر باللغة الألبانية والتي كانت تكتب بالأحرف العربية في ذلك الوقت.

من شكودرا إلى كرويا فمصر

وفي عام 1926 انتقل والد وهبي ليعمل إماما لمدينة كرويا، وهناك استكمل الابن دراسته الابتدائية، ثم تابع دراسته في المدرسة العليا بالعاصمة تيرانا حيث درس العلوم اللغوية (ومنها العربية)، والدينية، فضلا عن العلوم الأخرى التي كانت تدرس في المدارس الألبانية الأخرى، حيث أتم دراسته هناك عام 1937. وعند هذا الحد شاءت إرادة الله أن تنتهي حياته في وطنه الأم، حيث انتقل وهبي بعد ذلك إلى مصر ليستكمل دراسته في الأزهر الشريف، وهي الدراسة التي أتمها عام 1945.

وجه في الثقافتين الألبانية والعربية

في تلك المرحلة المصرية نتعرف على جانب من حياة وإسهامات وهبي إسماعيل من خلال كتابات المؤرخ الكوسوفي السوري الدكتور محمد موفاكو الأرناؤوط الذي أثرى المكتبة العربية بالعديد من الكتب والمقالات حول التاريخ والثقافة الألبانية، حيث ألف الدكتور موفاكو كتابا بعنوان “وهبي إسماعيل حقي.. رائد الترجمة بين الأدبين الألباني والعربي” والصادر عن دار نشر عام 2024 لدى “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن، كما أنه كتب مقالا موجزا في أغسطس من عام 2023 نشر على موقع العربي الجديد بعنوان “وهبي إسماعيل حقي.. وجه في الثقافتين الألبانية والعربية”، وفي كلا العملين قدم لنا وهبي إسماعيل كمترجم وأديب، ظهرت إسهاماته الأولى في مرحلته المصرية، لكن جذور هذا الاهتمام الأدبي تعود إلى فترة حياته في ألبانيا في كنف والده الإمام والشاعر والمثقف، فضلا عن قراءاته في الأعمال القصصية لإرنست كوليتشي والذي يعتبر رائد الأدب القصصي الألباني الحديث.

كانت القاهرة وقت حياة وهبي فيها تعج بنشاط ثقافي وأدبي، تجلى فيما تجلى في صدور مجلات كالثقافة والرسالة والهلال، والتي ظهرت فيها أعمال وهبي في الترجمة والتأليف الادبي، حيث ظهرت له أولى ترجماته من الأدب الألباني متمثلة في قصة “وفاء” للأديب كامل جرانياك في مجلة الثقافة عام 1944، ثم توالت ترجماته لنفس الأديب ولإرنست كوليتشي في نفس المجلة، كما نشر عام 1948 قصته الأولى بعنوان “الزائر الليلي”، فضلا عن قصته “في ميدان الجهاد” التي خلدت مشاركة الألبان والبشناق في حرب عام 1948 في فلسطين، وقد ضمت مجموعته القصصية الأولى “المهد الذهبي وقصص أخرى” الصادرة عام 1948 قصصه تلك إلى جوار قصص أخرى قصيرة.

وخلال تلك الفترة، وعلى إثر هجرة بعض الألبان إلى مصر ومنهم الملك أحمد زوغو، ووزير الثقافة إرنست كوليتشي، ساهم وهبي إسماعيل في تقديم إرنست إلى وتعريفه بكبار الكتاب من أمثال طه حسين، وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور، وقد أثمرت تلك اللقاءات عن توجه إسماعيل وهبي إلى ترجمة الأدب العربي إلى اللغة الألبانية، لكن هذا التوجه جاء مع انتقال وهبي إسماعيل إلى وطن جديد، وهو الولايات المتحدة في ربيع عام 1949.

الانتقال إلى الولايات المتحدة الأمريكية

جاء انتقال وهبي إسماعيل إلى الولايات المتحدة وقد قارب على الثلاثين من عمره، ليقضي الـ 58 عاما الباقية من عمره هناك، كان انتقال وهبي بناء على دعوة من الجمعية الإسلامية الألبانية الأمريكية” في ديترويت بولاية ميشيجان، والتي تأسست عام 1917 كفرع من الجمعية الرئيسية التي كانت قد تأسست في بيدفورد تدعوه إلى أن يصبح قائدهم الديني، حيث أنهم كانوا بحاجة إلى إمام ألباني تخرج من جامعة معروفة ليعلم أبناء الجالية الألبانية بلغتهم.

تأسيس أول مسجد للجالية الألبانية

فور وصوله إلى ديترويت – وأنا هنا أنقل معلوماتي من المقال المطول الذي نشره الباحث الكوسوفي شان كريماني Shan Karemani حول تاريخ المجتمع الألباني المسلم في الولايات المتحدة على موقع كوسوفا 2.0 Kosovo بتاريخ 10 يونيو 2025 – قام بحجز بعض الغرف في مقر معهد ديترويت الدولي لأداء الشعائر الدينية وتقديم دروس في اللغة الألبانية، لكنه كان يتطلع إلى إقامة مسجد دائم، وهنا طاف بالولايات المتحدة وكندا لجمع التبرعات، وقد جاء جزء كبير من الدعم المالي من الألبان أنفسهم، وفي النهاية فقد افتتح المسجد في يونيو من عام 1951، وفي عام 1962، ومع نمو المجتمع الألباني المسلم بيع المسجد، وتم شراء أرض جديدة بثمنه في شمال شرق ديترويت، أقيم عليها مسجد جديد أكبر، وافتتح في عام 1963.

بعد ذلك، استمرت جهود الشيخ وهبي إسماعيل في خدمة المجتمع الألباني المسلم في الولايات المتحدة، حتى تم اختياره عام 1993 كرئيس لاتحاد الجمعيات الألبانية المسلمة في الولايات المتحدة وكندا، والذي يضم اثنتي عشرة جمعية.

دور إعلامي بارز

وفضلا عن جهوده كقائد ديني فقد استمرت اهتمامات الشيخ وهبي إسماعيل وجهوده ككاتب ومفكر ومترجم، حيث أصبح رئيسا لتحرير مجلتين إسلاميتين فصليتين وهما الحياة الألبانية المسلمة Albanian Muslim Life والحياة المسلمة Muslim Life، والأخيرة هي لسان حال اتحاد الجمعيات الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، ويضيف الدكتور موفاكو إلى أنه أسس أيضا دارا لنشر الكتب بالألبانية والإنجليزية. وكما تشير المصادر فقد ألف وترجم عشرات الكتب (هناك اختلاف بين المصادر حول عددها) لكن أشهر تلك الكتب كان كتابه “محمد خاتم الأنبياء Muhammad, the Last Prophet”، والذي ترجم إلى أكثر من 25 لغة.

وهنا لابد لنا من العودة إلى مقال الدكتور موفاكو الذي يعطينا تفاصيل أخرى على جهوده في الترجمة والتأليف، حيث يشير إلى أن إرنست كوليتشي كان قد استقر في روما ليدير “معهد الدراسات الألبانية” هناك، ويؤسس مجلة أدبية هناك باسم “شيزات Shejzat” وأنه طلب من وهبي ترجمة بعض مؤلفات توفيق الحكيم، وبالفعل ترجم له مسرحية “أهل الكهف”، التي نشرت مسلسلة في المجلة، ثم صدرت في كتاب عام 1967، وأعيد إصدارها مرتين مرة في يوغوسلافيا عام 1986، والثانية في ديترويت عام 1988، كما ترجم أيضا مسرحية الحكيم “محمد الرسول البشر” والتي صدرت في ديترويت عام 1987، كما واصل تأليفه القصصي بإصداره “باقة قصص من تاريخ الإسلام” عام 1985، ليتحول بعدها إلى الروايات التاريخية، ليصدر 3 منها بين عامي 1987 و1989.

ترجمة معاني القرآن الكريم

لكن قبل ذلك كان الشيخ وهبي قد بدأ في نشرمن عام 1950 نشر ترجمات لبعض سور القرآن في أعداد مجلة “الحياة الألبانية المسلمة”، وفي عام 1974، وبينما كان في زيارة لمجتمع المسلمين في يوغوسلافيا حمل إليهم نبأ انتهائه من ترجمة القرآن كاملا إلى اللغة الألبانية، وانطلق في جولة ببعض البلدان العربية في محاولة لتوفير تمويل لطباعته، لكنه وياللأسف فقد الحقيبة التي كانت تضم الترجمة، وظل شهورا يحاول عبثا استعادتها. ويبدو أن هذا الحدث قد أحبطه عن معاودة الترجمة، فحفز فتحي مهديو – من مسلمي كوسوفا – على إنجاز الترجمة، وبالفعل قام بالمهمة، وصدرت الترجمة عام 1985 في بريشتينا، وقد سر الشيخ وهبي بهذا الإنجاز، وروج للترجمة في الولايات المتحدة وكندا.

استمر عطاء الشيخ وهبي إسماعيل في خدمة الإسلام والمسلمين، إماما وقائدا دينيا، وأديبا ومترجما حتى وافاه الأجل في مايو من عام 2008. ولا زالت رحلة حياته وعطائه الديني والأدبي ينتظران عمل تأريخي وافيا يغطي جميع مراحل وجوانب حياته، عسى أن نرى ذلك قريبا.

ـ مصدر النشر ومزيد من المعلومات؛ طالع مصدر النشر على صفحة الدكتور مجدي سعيد: ( اضغط هنا ).

التخطي إلى شريط الأدوات