
مسلمون حول العالم – خاص – هاني صلاح
في مشهد تاريخي استثنائي، شهدت كوسوفا اليوم حدثًا بالغ الرمزية في الذاكرة الإسلامية؛ إذ عادت إحدى أنفس نسخ “صحيح البخاري” المخطوطة – وهي “نسخة اليونيني” النادرة – إلى موضعها الأصلي في مكتبة الجامع الأثري “هادومي” بمدينة جاكوفا، جنوب غرب البلاد، بعد أن ظلت محفوظة في الخفاء لما يقرب من قرن، خلال فترات الاحتلال الصربي، لتُصبح اليوم شاهدًا حيًا على صمود الهوية الإسلامية في كوسوفا والبلقان.
جهود علمية وثقافية رعتها المشيخة الإسلامية في كوسوفا
النسخة المخطوطة التي تعود لأكثر من 270 عامًا، تُعد من أندر وأصح النسخ المعتمدة لصحيح الإمام البخاري، ولا يوجد منها سوى نسختين في العالم: إحداهما في مكة المكرمة وقد طالها الضرر بفعل عوامل الزمن، وأما نسخة كوسوفا، فقد ظلت محفوظة بعناية مذهلة لدى مسلمي كوسوفا بفضل جهود علماء البلاد وعائلاتهم.
عقودًا من الصيانة الصامتة
وقد خضعت هذه النسخة خلال السنوات الأخيرة لتحقيق علمي دقيق شامل، تُوّج بطباعتها في مجلدين فاخرين بالتعاون مع دار “لؤلؤة” اللبنانية، ضمن جهود علمية وثقافية رعتها المشيخة الإسلامية في كوسوفا، أعادت لهذا الأثر الخالد مكانته كأول طبعة عالمية كاملة ومعتمدة لهذه النسخة النفيسة.
وفي أجواء احتفالية مهيبة، جرت مراسم تسليم النسخة إلى مكتبة جامع هادومي، بحضور فضيلة الشيخ الدكتور نعيم ترنافا، رئيس المشيخة الإسلامية في كوسوفا ومفتي البلاد، وعدد من العلماء والشخصيات الثقافية، في حدث يكرّس عقودًا من الصيانة الصامتة التي قامت بها المشيخة الإسلامية لحماية هذا الأثر الفريد من محاولات الطمس والاستئصال التي استهدفت التراث الإسلامي، خاصة في كوسوفا خلال القرن العشرين.
نُظم هذا الحدث العلمي والروحي البارز من قِبل معهد البحوث والدراسات الإسلامية بالتعاون مع مجلس المشيخة الإسلامية في جاكوفا، وشهد حضورًا مميزًا من العلماء والباحثين وقيادات دينية.
استُهل الحفل بكلمة ترحيبية من فضيلة الشيخ فالون أفندي ميرتا، رئيس مجلس المشيخة في جاكوفا، الذي شكر الحضور ولفت إلى أهمية صون التراث الإسلامي والتعريف به، خاصة في ظل ما تعرض له من تهديدات عبر العقود.
منارة علمية.. ودعوة للحفاظ على المخطوطات
من جانبه، تحدث فضيلة الشيخ الأستاذ صبري أفندي بايغورا، مدير معهد الدراسات، مشيرًا إلى أن “نسخة اليونيني” تشكل شاهدًا ثمينًا على عمق الإرث الثقافي الإسلامي في كوسوفا، مؤكّدًا أن إعادتها إلى موضعها الأصلي داخل جامع هادومي تمثل عملًا رمزيًّا وتاريخيًّا في آنٍ واحد.
ودعا بايغورا كل من يمتلك مخطوطات قديمة إلى تسليمها للمعهد للمحافظة عليها وفهرستها وإتاحتها للأجيال القادمة من طلاب العلم والباحثين.
مفتي كوسوفا: المخطوطة من أثمن نسخ البخاري.. وذاكرتنا الدينية استُهدفت بالنار
أما فضيلة الشيخ الدكتور نعيم ترنافا، رئيس المشيخة الإسلامية في دولة كوسوفا، ومفتي البلاد، فقد أكد في كلمته على أن هذه النسخة من “صحيح البخاري” تُعد من أكثر النسخ وثوقًا، ليس فقط لقيمتها النصية، بل لكونها نسخت وقرئت داخل كوسوفا، وتحديدًا في جامع هادوم آغا، الذي بقي حارسًا لتراث الأمة رغم العواصف.
وأشار فضيلته إلى أن الكثير من المخطوطات الإسلامية في كوسوفا تعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي، لكن الحرب الأخيرة (1998–1999) أدت إلى حرق وتدمير جزء كبير منها، خاصة بعد استهداف مكتبات وأرشيف المشيخة الإسلامية من قبل القوات الصربية.
جلسة علمية.. ومداخلات متخصصة
تضمن البرنامج جلسة علمية ثرية قدّم خلالها عدد من الباحثين أوراقًا متخصصة، من بينهم: الدكتور سليمان عثماني، وعبدالقادر أرناؤوط، ومحمد ستوبلا، حيث تناولوا الجوانب التاريخية والعلمية لمخطوطة “اليونيني”، ومكانتها في علم الحديث الشريف.
ختام الحفل.. عودة النسخة إلى دارها
اختُتم الحفل بتسليم رسمي للمخطوطة من فضيلة المفتي ترنافا إلى جامع هادومي، حيث تسلّمها بالنيابة الشيخ فالون أفندي ميرتا، في مشهد أعاد الاعتبار لذاكرة دينية صمدت في وجه الإهمال والحرب.
ترسيخ مكانة كوسوفا كحاضنة للتراث الإسلامي في قلب أوروبا
تُعد هذه النسخة من مخطوطة صحيح البخاري شاهدًا ناطقًا على العلاقة العميقة بين الشعب الألباني في البلقان والإرث العلمي الإسلامي العالمي، ودليلًا على قدرة المسلمين الألبان في هذه المنطقة على حماية تراثهم الديني والثقافي والعلمي، رغم تقلبات التاريخ وتعاقب المحن التي استهدفتهم من شعوب مجاورة سعت إلى طمس تراثهم بكل وحشية.
ويُرتقب أن تُفتح بعودة هذه النسخة المباركة آفاق جديدة لمشاريع علمية وثقافية تسهم في ترسيخ مكانة كوسوفا كحاضنة للتراث الإسلامي في قلب أوروبا، وتُبرز دور المشيخة الإسلامية المتنامي كمرجعية علمية وحضارية في صيانة هذا التراث وإحيائه للأجيال القادمة.
جامع هادومي.. ذاكرة المدينة ومنارة العلم الأولى في جاكوفا
يُعد جامع “هادومي”، الذي شُيّد في منتصف القرن السادس عشر الميلادي، من أقدم المعالم الإسلامية في مدينة جاكوفا – ثالث أكبر مدن كوسوفا – وقد شُيّد وفق الطراز العثماني التقليدي ليكون منارة للعلم والدين. تحوّل الجامع مع مرور الوقت إلى نواة دينية وثقافية نشأت حولها المدينة، واشتهرت بهويتها الإسلامية العريقة.
يضم المجمع الإسلامي لجامع هادومي عناصر متكاملة: الجامع، مقر المشيخة الإسلامية، مكتبة تراثية، أرشيف تاريخي، ومقبرة قديمة تحتوي شواهد قبور منقوشة بالخط العربي، تشهد جميعها على العمق الإسلامي والبعد الثقافي للمدينة. وقد تعرضت المكتبة والأرشيف للتدمير مرتين: الأولى عام 1913م عند دخول القوات الصربية إلى كوسوفا، والثانية عام 1999م خلال انسحابها بعد حرب الاستقلال.
إن عودة النسخة المخطوطة من صحيح البخاري إلى مكتبة الجامع لا تمثل مجرد توثيق علمي أو ترميم تراثي، بل تعكس صمود ذاكرة الأمة في وجه محاولات المحو، وتؤكد أن شعوب البلقان المسلمة، رغم النكبات، تمسّكت برموزها وهويتها، ونقلت أمانة العلم جيلًا بعد جيل.
ومن المتوقع أن يُحدث هذا الحدث صدى واسعًا في الأوساط الإسلامية والعلمية، لما يحمله من دلالات عميقة على دور المشيخة الإسلامية في كوسوفا في حفظ التراث الإسلامي وصيانته، وعلى مركزية مدينة جاكوفا بوصفها حاضنة للعلم والفقه والتاريخ في قلب البلقان.