مسلمون حول العالم ـ متابعات
المقال الذي بين أيدينا يفتح نافذة على تجربة رائدة في استعادة الروح الدينية للمسلمين الألبان بعد عقود من القمع الشيوعي الذي طمس كل مظاهر الإيمان. عبر سرد حي لتجربة الشيخ أيوب سلمان سلماني وأسرته، يرصد الكاتب التحولات الكبرى التي شهدتها ألبانيا مطلع التسعينيات، وكيف تلاقت حاجة المجتمع الألباني إلى العودة للدين مع جهود دعاة وعلماء من أبناء المنطقة، يمتلكون اللغة والثقافة والقدرة على التواصل مع الناس. المقال لا يكتفي بالتأريخ لتلك المرحلة الحساسة، بل يقدم أيضا قراءة معمقة لدور الأسرة العلمية في زرع بذور الصحوة الدينية وسط أجيال تاهت عن أبجديات الإسلام، ليبقى عطاؤهم شاهدًا على أن الجهود المخلصة مهما بدت محدودة في بداياتها يمكن أن تصنع أثرًا بعيد المدى.
أيوب سلماني وأسرته.. واستعادة الروح الدينية للمسلمين الألبان
ـ بقلم/ الدكتور مجدي سعيد ـ كاتب صحفي مقيم في لندن
قضيت الفترة ما بين 25 ديسمبر 1992، و26 يناير 1993 في ألبانيا، كانت تلك هي المرة الأولى التي أسافر فيها خارج مصر. كانت ألبانيا حينما زرتها تمر بفترة تحول كبرى بعد ثورة شعبية أطاحت بحكم الحزب الشيوعي للبلاد في فبراير من عام 1992، وهو الحكم الذي كان مستمرا منذ عام 1946، فرض فيها الإلحاد على الشعب فرضا، ومنعت أي مظاهر للدين إسلاميا كان أو مسيحيا، وأغلق أكثر من ألفي مسجد، وصودرت الأوقاف، وتم إعدام العشرات من الأئمة.
كانت أبواب ونوافذ ألبانيا قد فتحت فجأة بسبب تلك الثورة، فتلاعبت رياح التغيير القوية بشعبها الذي عانى الأمرين قهرا وفقرا وتخلفا، وخلال 4 عقود ونصف ظهرت أجيال لم تكن تعرف حتى أبجديات الدين وبدهياته، وكانت سلوى الناس الوحيدة في الخمر الذي كان يملأ الشوارع، حتى أنه كان يباع على الأرصفة، فضلا عن الخمارات، حينما كنت هناك.
وفي فترة الانفتاح تلك كانت المؤسسة الدينية الرسمية ممثلة في المشيخة تسعى لاستعادة دورها، بينما توافدت على ألبانيا الكثير من هيئات الإغاثة العربية والإسلامية، وهو توافد على الرغم من الخير الكثير الذي حمله، إلا أنه كان مليئا بالسلبيات أيضا.
وهناك، وفي نفس تلك الفترة التي كنت فيها هناك، كنا نسمع عن شيخ من ألبان مقدونيا اسمه الشيخ أيوب، رجل يكبرنا بما يقارب ثلاثة عقود، كان يقوم بتعليم القرآن وتدريس الدين للبنات والفتيات في مسجد آخر اسمه مسجد البازار، وكان أحيانا ما يأتي لزيارة مسجد أدهم بك – المسجد الرئيسي في تيرانا حينها – والصلاة فيه، مصحوبا بشابين، أحدهما ابنه يوسف، وثانيهما زوج ابنته أمين.
ولأنني سمعت حينها عن الشيخ أيوب الكثير من الثناء، ولأنني كنت مقتنع أنه الرجل المناسب في الزمان والمكان المناسبين، كونه عالم دين، الألبانية هي لغته الأم، يفهم الثقافة الألبانية فهما جيدا، كونه ابنا لتلك الثقافة، من أجل ذلك كله ظل اسم الشيخ أيوب وأسرته عالقا في ذهني، خاصة أنني لم تواتني الفرصة للتواصل المباشر معهم حينها. لذلك حينما علمت، أن الشيخ أيوب، وزوج ابنته الشيخ أمين، قد زارا ألبانيا خلال هذا العام 2025، انتهزت الفرصة وسعيت لترتيب تواصل بيني وبينهما، لأتعرف أكثر عليهما وعلى دورهما في ألبانيا في ذلك الزمن.
الشيخ أيوب سلمان سلماني.. محطات زمنية
ولد الشيخ أيوب سلمان سلماني عام 1943 في مدينة تيتوفا Tetovo التي تقع شمال غرب دولة مقدونيا الشمالية الحالية، نشأ وترعرع في بيت ديني، حيث كان أبوه حافظا للقرآن الكريم، وكان أحد أهم ثلاثة قادة دينيين في المدينة.
درس القرآن والعلوم الدينية على أبيه أولا، وبعدما انتهى من المدرسة الابتدائية سافر إلى بريشتينا – عاصمة دولة كوسوفا الحالية – للدراسة في المعهد الديني بها، والذي كان وقتها مفتوحا ومزدهرا بالطلبة. كانت مداومته في الدراسة بالمعهد سنة واحدة فقط، استمر واصل بعدها الدراسة بالمعهد ولكن دون مداومة فيه، واستمر بالتوازي في الدراسة على يد أبيه، وثلة من علماء المنطقة، حيث درس النحو والصرف والبلاغة وعلم المعاني وعلوم التفسير والفقه.
وفي عام 1965، عندما كان عمره 22 سنة توظف في المسجد كإمام وخطيب ومعلم للطلبة، وداوم على هذا العمل إلى عام 1978، وفي تلك السنة سافر إلى الرياض، ودرس هناك اللغة العربية لمدة عام واحد، وباعتبار أنه كان مسؤولا عن أسرة، حيث كان متزوجا ولديه أبناء في تلك الفترة، لم يستطع أن يبقى هناك أكثر من عام، واضطر أن يعود إلى بلده ويستمر في العمل، وكان قد استفاد كثيرا من دراسته تلك في الرياض.
عندما عاد الشيخ أيوب من السعودية انتقل من المسجد الذي اعتاد العمل فيه، ليكون إماما وخطيبا للمسجد الذي يقع في الحي الذي يسكن فيه أمين، فضلا عن تنقله لإلقاء الدروس في مساجد المنطقة. وفي تلك الفترة كان الشيخ أمين لا زال فتى في الثانية أو الثالثة عشرة من عمرة، وهنا بدأت مسيرته في التتلمذ على يد الشيخ أيوب، حيث نظم الشيخ أيوب هناك دروسا في القرآن الكريم للأولاد، حضرها أمين مع العشرات غيره، وعندما تكاثر الأولاد في الدرس، طلب والد أمين من الشيخ أيوب أن يعطي ابنه دروسا خاصة في المنزل، تركزت على علوم العربية خاصة النحو والصرف.
وعندما أنهى أمين المرحلة الابتدائية – وكانت تنتهي في الصف الثامن وفق نظام التعليم في ذلك الوقت – سافر إلى سوريا عام 1981 للمداومة في معهد الفرقان في دمشق، حيث أنهى المرحلة الثانوية في العام المدرسي 1986/ 1987.
وهنا لابد من التوقف للحديث عن قصة زواج الشيخ أمين بابنة الشيخ أيوب. كان الشيخ أيوب بالنسبة لأمين أستاذ ومعلم، لكن كانت هناك مصاهرة من بعيد بين عائلتيهما الممتدة. وعندما سافر أمين للدراسة في معهد الفرقان في سوريا كان أبواه مهتمين بأمر زواجه، ومن ثم، وأثناء وجود أمين في سوريا تقربوا أكثر من أسرة الشيخ أيوب، ويبدو أنهم رأوا في ابنته زوجة مناسبة له، ومن ثم، حدث الزواج في نهايات المرحلة الثانوية، وكان سن أمين حينئذ 18 سنة.
وبعد انتهاء الشيخ أمين من المرحلة الثانوية في دمشق، انتقل إلى القاهرة للدراسة بجامعة الأزهر الشريف، وهناك فضل الالتحاق بكلية الدراسات العربية والإسلامية، والتي كانت كلية حديثة في ذلك الوقت، حبا منه في الدراسات العربية، وقد أنهى دراسته فيها عام 1991.
تحولات مفصلية في المنطقة
كان ذلك التاريخ – عام 1991 – مفصليا سواء في حياة دولة يوغوسلافيا الاتحادية، التي كانت مقدونيا الشمالية جزءا منها، أو في حياة ألبانيا.
ففي يوغوسلافيا كانت قد أجريت أول انتخابات ديمقراطية في البلاد عام 1990، ثم كان أن أعلنت كل من كرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا استقلالها، ما أدى لقيام الجيش اليوغوسلافي بشن حرب على تلك البلدان الجديدة المنفصلة عنه لإعادتها إلى الدولة.
أما في ألبانيا فقد أحدثت الحكومة الألبانية بعض التعديلات في قوانينها عام 1990 سمحت فيه بالانتخابات وبالسفر إلى الخارج، وعقب إجراء أول انتخابات في مارس 1991 ووصول الشيوعيين السابقين إلى السلطة مرة أخرى، اندلعت اضطرابات أدت إلى تشكيل حكومة ائتلافية، تلتها انتخابات أخرى بعد عام واحد سقط فيها الشيوعيون من الحكم.
وبسبب تلك الاضطرابات في يوغوسلافيا تحديدا، وبعد انتهاء دراسته بالأزهر، سافر الشيخ أمين إلى اسطنبول، وكان الشيخ أيوب قد سبقه للسفر إليها، وهناك بقيا لبعض الوقت، حتى ظهر في حياتهما ذلك الرجل النادر الذي عاش حياته وعينه على تحسين أوضاع المسلمين في شرق أوروبا، وهو الدكتور الفاتح علي حسنين، الذي قام بزيارة مدينة تيتوفا ليسأل عن الشيخ أيوب بينما كان موجودا وأمين في اسطنبول، وعندما علموا من أهلهم بأمر الزيارة، تواصلوا مع الدكتور الفاتح، ثم التقوا به في فيينا، حيث كان يقيم حينئذ، كان الحافز على هذا اللقاء رؤية الدكتور الفاتح بعينه الثاقبة ومراقبته الأوضاع عن كثب للتغيرات التي تحدث في المنطقة للفرصة المواتية، وشعوره بضرورة وجود علماء دين مثل الشيخ أيوب وأسرته ليساعدوا على استعادة ألبانيا لروحها الدينية التي فقدتها طوال ما يقرب من 5 عقود، وهو الأمر الذي وجد صداه لديهم.
وبالفعل سافروا إلى تيرانا عاصمة ألبانيا في فبراير 1992، وكان وصولهم قبل شهر رمضان بأسبوعين، رافق الشيخ أيوب في سفره كل من الشيخ أمين زوج ابنته، وابنه يوسف الذي كان قد درس أيضا في أحد المعاهد الدينية في سوريا.
قضت الأسرة الشهرين الأولين تستطلع الأحوال، أولا في تيرانا، ثم في دورس (وهي الميناء الرئيسي لألبانيا) والتي قضوا فيها شهر رمضان كاملا في ضيافة إحدى الأسر.
لكن ظروف الحياة في ألبانيا في ذلك الوقت كانت قاسية على الشيخ أمين، الذي احتاج أن يعود إلى اسطنبول بعد شهرين، ليطلع زوجته على الظروف ويشاورها في أمر الانتقال إلى ألبانيا من عدمه، خاصة في ظل ظروف أعمار أطفالهما الصغيرة، بينما بقي الشيخ أيوب في ألبانيا. كان الاتفاق بين الشيخ أمين وزوجته على السفر إلى ألبانيا، والبقاء هناك مدة لا تتجاوز الستة أشهر، لكنهم عندما سافروا وانخرطوا في النشاط الدعوي، ونتيجة للاستقبال الطيب من الناس، والأجواء التي كانت موجودة هناك فإنهم بقوا هناك 4 سنوات، وليس 6 أشهر كما كانوا يخططون.
الحالة الدينية للمسلمين في ألبانيا
وهنا لابد من التوقف للحديث عن الحالة الدينية للمسلمين في ألبانيا، وإذا شئنا الدقة في وصفها فإننا نستطيع أن نقول إنه لم تكن هناك “حالة دينية” بالأساس، سواء لدى المسلمين أو غيرهم، ففي ظل حكم شيوعي إلحادي، قمعي، كان الناس يفتقدون لأبجديات الإيمان، ناهيك عن أبجديات العبادات أو السلوك السوي دينيا، وقد كنت شاهدا عندما زرت ألبانيا على الأسئلة الوجودية البدهية، والحالة المتردية دينيا للمسلمين الذين كان من المفترض أنهم يمثلون 80% من السكان.
لذلك كانت استعادة الروح الدينية الطبيعية للمسلمين هناك مهمة ثقيلة، لم تكن جهة واحدة ولا قلة من الأفراد قادرين وحدهم على الاضطلاع بها، فبينما كانت المؤسسة الدينية الرسمية ممثلة في المشيخة الإسلامية، تنفض عنها غبار الماضي المقيت وتسعى لاستعادة مساجدها ومعاهدها الدينية وتشكيلاتها في المدن والبلدات المختلفة، كانت المؤسسات الخيرية العربية والإسلامية تسعى لمعاونتها في مهمتها، فضلا عن قيامها بمعاونة الناس وإخراجهم من حالة الفقر المادي والروحي التي كانوا يعيشونها، وهنا تأتي أهمية ومحورية وجود شخصيات مثل الشيخ أيوب كعالم كبير، وأسرته (الشيخ أمين، وزوجته، ويوسف ابن الشيخ أمين) وكلهم كانوا من الشباب حينئذ.
فعلى الرغم من أهمية دور الهيئات الخيرية والإغاثية إلا أن العاملين فيها لم يكونوا مؤهلين دينيا بنفس القدر إلا فيما ندر، كما أنهم لم يكونوا يعرفون لا اللغة ولا الثقافة الألبانية، ولا يستطيعون أن يتفهموا الحالة الدينية المتردية وكيفية التعامل معها بما يفهمه أهل ألبانيا.
لذلك عندما عاد الشيخ أمين وابنته، انضموا إلى الشيخ أيوب وابنه في عملهم الدعوي والتعليمي، حيث قاموا يعلمون الناس صغارا وكبارا، ذكورا وإناثا أمور إيمانهم ودينهم، ويردون على استفساراتهم عبر العديد من المناشط.
البداية في مدرسة حكومية في تيرانا
يقول الشيخ أمين عن ذلك: في بداية عملنا بالدعوة هناك، كانت لجنة الإغاثة الإنسانية المصرية قد اتفقت مع مدرسة حكومية في تيرانا، على تخصيص فصلين في المدرسة، فصل للطلاب، وكنت أنا مسؤولا عن التدريس له، وكان معي يوسف ابن الشيخ أيوب، بينما تولى الشيخ أيوب التدريس لفصل ثان من البنات باعتبار أنه أكبر سنا، وساعدته ابنته (زوجتي) في عمله، وهناك مارسنا تدريس مبادئ اللغة العربية، والقرآن الكريم وبعض المواد الدينية لفترة من الزمن. ولأن ألبانيا في الفترات السابقة كانت قد تعرضت للخراب في كل شيء، فكانت المدارس حينها في وضع سيء جدا من حيث البنية التحتية، لذلك كان الاتفاق مع المدرسة على أن تقوم لجنة الإغاثة بإصلاح المدرسة، على أن يعطونا هذين الفصلين لتعليم النشء دينهم.
كانت فترة عملنا هناك جيدة ومناسبة لنا، وقد استمر تدريسنا هناك لأكثر من سنة، وبالرغم من تلك الفترة الوجيزة فقد تخرج عدد طيب من الطلاب والطالبات، حتى أن أحد هؤلاء الطلاب، وكان من ضمن الدفعة الأولى التي تخرجت من دروسنا، قد أصبح فيما بعد مفتي تيرانا، وخطيب المسجد الكبير الذي افتتح فيها في ديسمبر من عام 2024.
الانتقال إلى مسجد البازار
وبعد فترة عملنا في فصول المدرسة انتقلنا بعد ذلك إلى مسجد البازار والذي كان مجاورا للمدرسة التي كنا نعمل فيها، وهناك عملنا مع مجموعة أوسع من الطلاب والطالبات، لم يكن عملنا معهم قاصرا على فئة دون أخرى، حيث كانت هناك دروس للأولاد والرجال من سن 7 سنوات، وحتى سن 40 أو 45 سنة، لكن أكثرية الحضور كانت من سن 7 سنوات إلى 20 أو 25 سنة. كما كانت هناك دروس أخرى للفتيات والسيدات من نفس الفئات العمرية تقريبا، إلا أنهن كن أكثر عددا، وأكثر اهتماما وقبولا وأقبالا، وهي طبيعة الأشياء منذ ذلك الوقت وإلى الآن.
بعد ذلك طلبت مني المشيخة الإسلامية في ألبانيا التدريس في المعهد الديني التابع لها، فكنت أقوم هناك بتدريس بعض المواد مثل التفسير والفقه، فضلا عن تدريسي لمجموعتنا في مسجد البازار.
وفي نفس الوقت، ومن خلال عملي مع لجنة الإغاثة كنت أتولى إعداد مناهج التدريس في مدارس المساجد التي تقع في أرياف تيرانا، حيث كنت أزور كل يوم مدرسة. وقد قدمنا لمدارس المساجد تلك منهجا لدروس القرآن والدروس الدينية المناسبة، وكنت أقوم بشكل دوري بزيارة الأئمة الذين يقومون بالتدريس في تلك المساجد لتقديم النصح والعون لهم في مهمتهم، وقد بلغ عدد تلك المدارس المسجدية التي قدمنا لها العون هناك أكثر من 30 مدرسة تخرج منها مئات الطلاب والطالبات. كما كنا نصطحب الأولاد بين الحين والآخر في رحلات ومخيمات تجمع بين الترفيه والتربية بالمعايشة.
فضلا عن ذلك فقد قمنا كلجنة إغاثة باستئجار مكان في مدينة دورس وأسسنا هناك مشغل للخياطة للفتيات والسيدات، ووفرنا لهم من يقوم بتعليمهم مهنة الخياطة، فضلا عن توفير ودعم معلمات للدروس الدينية.
استمر الشيخ أيوب في دروسه وعمله الدعوي هناك إلى عام 1997، أي لمدة عامين بعد أن غادر أمين وأسرته عائدين إلى اسطنبول عام 1995، حيث كانت ظروف تعليم الأولاد لا تسمح لهم بالاستمرار في ألبانيا أكثر من ذلك، بسبب ضعف التعليم الحكومي هناك في ذلك الوقت.
كانت الفترة التي قضاها الشيخ أيوب وأسرته في ألبانيا، من أكثر الفترات خصوبة وإنتاجا، على الرغم من أن أنهم ربما لم يشهدوا ثمارها البعيدة، إلا بعد فترة كبيرة من سفرهم.
يحكي الشيخ أمين عن بعض الثمرات القريبة والبعيدة لعملهم: كان لدي مجموعة من الطلبة ممن بدأوا معنا بدراسة الحروف، وبعد 9 أشهر استطاعوا أن يبدأوا في قراءة القرآن بدرجة جيدة، واستطاعوا حفظ الأجزاء الثلاثة الأخيرة منه، قد سمع، وتبارك، وعم، وهذه كانت من الثمار القريبة لما قمنا به. وبعد سنوات، كنت في تركيا، وقد أقمت فيها فترة طويلة، حيث كنت أقوم بالتدريس هناك للجالية الألبانية، وهناك كنت ألتقي بطلاب ممن درستهم وهم في طريقهم للذهاب إلى سوريا أو السعودية أو مصر، أو لبنان، وظللت على تواصل مع الكثيرين منهم.
وحتى بعد 15 أو 20 عاما، كان منهم من يمر باسطنبول ويحضر الدروس واللقاءات الدعوية، وبعد اللقاء يأتون إلي ليعرفونني بأنفسهم وأنهم كانوا طلابا ممن درستهم في فترة ألبانيا، وهذه تكون من أسعد لحظاتي. لكن حاليا هناك صحوة كبيرة في ألبانيا، ولم نكن الفاعلون الوحيدون الذين تسببوا في حدوثها، بل إن هناك غيرنا ممن قاموا بالكثير، والحمد لله على توفيقه.
أما على جانب الفتيات، فإننا ونحن لا زلنا هناك كنا قد رأينا الكثيرات منن قد بدأن الالتزام بالحجاب، وهو تأثير مباشر كان يمكن ملاحظته ونحن هناك، ولا زالت الكثيرات منهن على تواصل حتى الآن.
ولأن الشعب الألباني عاش منذ الحرب العالمية الأولى وحتى أوائل التسعينيات في ظل حروب واحتلالات متتالية، وفي ظل اقتطاع أجزاء من بلاده من قبل الصرب ويوغوسلافيا شمالا، ومن اليونان جنوبا، فقد عرف هذا الشعب الهجرة والشتات في كثير من بقاع العالم، لذلك، وبعد فترة ألبانيا، عاد الشيخ أيوب لفترة وجيزة إلى تركيا، ثم ما لبث أن عاد إلى مقدونيا، ومن هناك عاود العمل على دروسه، ولا زال يقوم بذلك حتى الآن، أي أنه ظل يقوم بواجبه الديني منذ عام 1965 وحتى الآن، ولمدة 60 عاما دون انقطاع، لم يتأخر يوما عن اللقاء بطلابه أيا كان مكان عمله في مقدونيا أو في تركيا أو في ألبانيا، وإلى الآن لا زالت له فصول يقوم بالتدريس فيها، وليس فصلا واحدا. ومن الطريف أنه قبل عامين، كان قد فكر أن يتوقف نظرا لكبر سنه، التي وصلت الآن إلى 82 عاما، لكنه سرعان ما عاد قائلا: لا أستطيع أن أتوقف وأجلس في البيت، فالتدريس عنده يتقدم على كل شيء.
بينما بقي الشيخ أمين مع أسرته في تركيا حتى عام 2019، حيث انشغل هناك في تدريس اللغة العربية والقرآن والقيام بمهام الدعوة بين أبناء الجالية الألبانية ليس في تركيا وحدها ولكن في بلدان أوروبا المختلفة منذ عام 2009، خاصة في سويسرا وألمانيا التي تضم جاليات ألبانية كبيرة.
لكن بعد 2019 عاد الشيخ أمين إلى مقدونيا، حيث أنهم تمسكوا بوجوده في المسجد الذي يقع في مسقط رأسه، حيث كان الإمام الخطيب السابق قد تقاعد، ومن ثم طالبه الأهالي بالبقاء ليكون إماما وخطيبا لمسجدهم. وفضلا عن قيامه بدوره وسط أهل بلده، فإنه ومنذ 4 سنوات بدأ في تقديم دورات للجالية الألبانية من الفتيان والرجال عبر الإنترنت، بينما تقوم زوجته بالدور نفسه في أوساط الفتيات والنساء.
قد تبدو أسرة الشيخ أيوب أسرة دينية عادية، كعشرات غيرها في البلقان، ممن جمعوا بين التعليم التقليدي المباشر على يد من سبقهم من العلماء، وبين التعليم الرسمي في المعاهد والكليات، على اختلاف في مساحة ذلك مع اختلاف الأجيال، إلا أن الله أراد أن يستخدمهم في غرس بذور في تربة بلد كانت متعطشة لذلك الغرس، وكان مكان ذلك وزمانه من توفيق الله لهم.
ملاحظات:
– قمت بالتسجيل مع الشيخ أمين محمود في فبراير من عام 2025 عبر تقنية زووم.
– يمكن الاطلاع على المقال الذي كتبه الدكتور أسامة الأشقر حول الدكتور الفاتح علي حسنين على موقع “نبأ السودان” بتاريخ 19 أغسطس 2024 لمعرفة المزيد عن الرجل، وإن كان الرجل ودوره المحوري في شرق أوروبا يستحق ما هو أكثر من مقال:
https://sudannabaa.com/%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA/%D8%A3%D8%B3%D8%A7%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B4%D9%82%D8%B1-%D9%8A%D9%83%D8%AA%D8%A8-%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%91-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B9%D8%B1%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%88/28098/?fbclid=IwY2xjawMmujhleHRuA2FlbQIxMABicmlkETFhbzVyZ1JjT2x4cVJxYTJDAR5JdcfLYw4RvM2st7ahMjRm8LFXs3uZBUQKHRGCPn9YE4iHVII8zBNv386icQ_aem_0XFZ5vX2oz8_UmRR1QVr3Q