مسلمون حول العالم
نافذتك إلى أخبار الأقليات المسلمة

من حكايات السائرين في أرض الله – بناة جسور الأمة

بقلم/ الدكتور مجدي سعيد ـ كاتب صحفي مقيم في لندن

ـ بقلم/ الدكتور مجدي سعيد ـ كاتب صحفي مقيم في لندن

منذ أن أسس كتاب رب العالمين لمفهوم “الأمة” التي تضم المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، بامتداد التاريخ منذ أن أرسل الله أنبياءه ورسله، وامتداد الجغرافيا في شرق الأرض وغربها، كان المفهوم لا يعرف حدودا سياسية، ولا فواصل عرقية أو لغوية، على الأقل لدى شعوب هذه الأمة، فامتزج المؤمنون وارتبطوا برابطة معنوية لا تعترف بفضل أحدهم على سواه إلا بالتقوى، ونمت وتطورت بينهم روابط عضوية بالزواج والمصاهرة، وروابط معرفية عبر التعليم والتعلم، أو روابط روحية عبر رحلات الحج التي جاءت من كل فج عميق، أو روابط اقتصادية عبر المتاجرة برا وبحرا، وفي كل ذلك كان أفراد وجماعات الأمة يتحركون، ويسافرون ويسيرون، وربما جمع أحدهم بين كل تلك الروابط وغيرها، فيسير إلى أرض غير الأرض التي ولد فيها، ويتكلم بلسان من يسكنون تلك الأرض الجديدة التي انتقل إليها، ويتعلم ويعلم في تلك الأرض بالعربية أو الفارسية أو الأردية أو غيرها من ألسنة الأمة، ويتزوج ويصاهر، وربما تاجر أو امتهن حرفة يتكسب منها.

وطوال تلك السنين والقرون، لم يفرقهم يوما اختلاف ألسنتهم الأصلية، فقد بنى الإسلام لهم هوية تجمع شعوبهم وقبائلهم، وإذا كانت السياسة وأنظمة الحكم التي توالت عليهم طوال تاريخهم قد قسمت انتماءاتهم لهذه الدولة أو تلك، إلا أن ذلك لم يحل دون امتزاج أفرادهم ومجتمعاتهم في إطار ما يجمعهم، فترى الذين كانت ألسنتهم أعجمية يؤسسون لعلوم العربية، وعلوم الإسلام وغيرها، وترى التجارة تفتح لهم ولدينهم آفاقا جديدة في بلاد وقارات العالم لم يكن للإسلام فيها وجود، وترى المصاهرة وقد مزجت أمشاجهم وقربت بينهم، وترى الأحرف العربية قد قربت بينهم حينما استخدمت كأحرف لكتابة جميع لغاتهم الأصلية، وهكذا فإن التيارات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تعمل تحت أسطح السياسة – التي كانت تبدو متفرقة ومتشرذمة – قد جعلت بينهم جسورا للامتزاج والاندماج أكثر رسوخا.

كان كل ذلك كائنا حتى ضعفت الأمة، وتملك أزمتها غيرها من الأمم، وزادت عوامل التفرقة بين شعوبها حينما تم العمل على تغيير أحرف كتابة لغاتهم، وأصبح التنقل والعيش هنا وهناك في بلادهم تحول بينه حوائل كثيرة. ومع دخول العصر الحديث، عصر الدول القومية، والعصبية العنصرية والعصاب الثقافي واللغوي والعرقي، ابتعدت أجيال كثيرة عن معنى ومفهوم الأمة الواحدة.

وقد كانت الأمة في بدايات عصر الدول القومية تلك تنحصر تاريخيا في أقاليم جغرافية محددة في قارتي آسيا وأفريقيا وجانبا من قارة أوروبا، إلا أنها بعد الحروب العالمية والأزمات السياسية والاقتصادية التي شهدها العالم قد تحركت شرقا وغربا لتشغل مساحات جديدة، حتى صارت “الأمة” موجودة في كل قارة من قارات العالم، وربما في كل بلد من بلدانها، ومع اقتراب نهايات القرن العشرين بدأنا نرى حراكا بطيئا وغير منتظم ولا منظم يستعيد مهمة بناء الجسور الشعبية مرة أخرى هنا وهناك.

ومع انفتاح العالم وصيرورته قرية صغيرة في عصر الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، صرنا نكتشف فواعل هنا وهناك لا زالت تمارس أدوارها في وضع لبنات لمد الجسور بين الشعوب التي تفرقت واغتربت عن بعضها البعض لعقود.

وقد قيض الله لي خلال حياتي التي تزيد عن 63 عاما الآن، أن أمر بتجربة اختارت “الأمة” عنوانا لها، عبر مجلة كانت تصدر من الدوحة على مدار 6 أعوام هجرية، في مطلع القرن الخامس عشر الهجري، لتعمل على تعميق الانتماء لهذا المعنى بشكل سلس وناعم ودون شعارات شعبوية طنانة، ولا عناوين زاعقة رنانة.

كما قيض الله لي أن أدرس تاريخ ما يعرف باسم علم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، وهو أحد العلوم التي نشأت وتطورت مع نشأة وتطور المشروع الاستعماري الغربي، والتي اعتنت بدراسة الآخر غير الأوروبي اجتماعيا وثقافيا وفيزيقيا، ومع تطورها استلزمت من الدارسين من بين ما استلزمت أمرين، الأول إجادة اللغات واللهجات الخاصة بتلك الشعوب والقبائل مهما قل عدد الناطقين بها، الثاني الإقامة مدة لا تقل عن عامين في أوساط تلك الشعوب والقبائل، بما يسمح بدراستها دراسة وافية.

وقد قارنت ذلك الجلد الذي تحلى به دارسو الأنثروبولوجيا، أو حتى رجال التبشير الذين استفادوا من دراساتهم، ذلك الجلد الذي يدفع أحدهم للعيش في بيئات شديدة القسوة، تختلف عن البيئات التي اعتادوا عليها وارتاحوا للعيش فيها، فضلا عن الصبر على تعلم لغات ولهجات تختلف بالكلية عن لغاتهم الأصلية، قارنت ذلك كله بعجز أبناء أمتنا حتى عن الغوص في أعماق ثقافات شعوب وقبائل أمتهم قياما بدور بناء الجسور بين مكوناتها، ناهيك عن الغوص في أعماق ثقافات وشعوب قبائل العالم من غير أبناء أمتهم، قياما بمسؤولية الرحمة بالعالمين.

ومنذ بداية عام 2024 شاء الله لي أن أبدأ بعض أعمال “التأريخ الشفهي” لبعض المشاريع والتجارب، وقد ألهمني الله في نهاية هذا العام، بعد أن أنهيت مشروعين من تلك المشاريع أن أبدأ في التأريخ عبر لقاءات مسجلة على زووم لتجارب بعض من أصحاب اللسان العربي في وضع لبنات تقيم جسورا بين مكونات الأمة على امتداد العالم.

ومن ثم، عملت على مهل مع بداية عام 2025 على إجراء لقاءات مع بعض النماذج التي تحلت ببعض الجلد الذي نفتقده، من أجل توثيق تجاربها في بلدان ومجالات عمل مختلفة، وهو ما أثمر عن تقديم هذا الكتاب الذي بين يديك، والذي أتمنى أن يكون جزءا أول في سلسلة تتناول قصص السائرين في أرض الله.

والنماذج بلا شك ليست حصرية، بل مجرد نماذج دالة على معنى الأمة الواحدة، التي تتجاوز حدود اللغة والعرق والثقافة والتقسيمات السياسية لتقدم معنى إيجابي وبناء للأمة الواحدة، كل بما تيسر له، فـ”كل ميسر لما خلق له”.

وقد اخترنا أن نقدم نماذج حية وفاعلة لا زالت تعمل كل في مجاله وبلده، ولم نختر أن نقدم نماذج تاريخية سابقة، فليس هدف هذا الكتاب التأريخ للفاعلية في هذا المجال في البلدان التي تأتي منها النماذج، حيث أن مهمة التأريخ هذه تحتاج إلى مجلد يخص كل بلد من تلك البلدان، ويحتاج مني أن أكون على معرفة بلغة هذا البلد أو ذاك لأتمكن من مراجعة الأدبيات المنشورة في هذا الصدد، وهو هدف يختلف عن هدفي من هذا الكتاب، الذي يتواضع صاحبه مدركا أن هذه مهمة يضطلع بها باحثون وليس فرد واحد يتواصل مع الفاعلين شفاهيا ليحكوا له شهاداتهم عن أنفسهم ومبادراتهم ومؤسساتهم.

وحسبي أنني أقدم هنا بضاعة مزجاة، ربما تسد ثغرة، أو تلهم بفكرة، أو تعطي أملا، أو يتعلم منها أحد، عسى الله أن يتقبل مني عملي هذا خالصا لوجهه، وأن يعينني على إتمام هذا المشروع عبر تقديم أجزاء ونماذج أخرى، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.

مجدي سعيد

لندن – 18 يوليو 2025

للإطلاع علي الكتاب مجاناً وتحميله: ( اضغط هنا )

التخطي إلى شريط الأدوات