منذ تخرجه عام 1993 أثبت جدارته كطبيب متميز في مهنته.. وعلى مدار 14 عامًا راح يرتقي سلم النجاح من طبيب لرئيس قسم ثم مديراً لأكبر مستشفى بشبه جزيرة القرم، حتى أصبح نائبًا لوزير الصحة في شبه الجزيرة التي يمثل قومه من التتر المسلمين نحو 20% من تعداد سكانها.
إنه الطبيب موسى طاهر حكيم أو “موسايف طائير آكيموفشج” بلغة أهل القرم الذي يعتبر نفسه “وقفاً خيريًّا” لهم، فأخذ يسعى في كل اتجاه لمساعدتهم، سواء من خلال منصبه أو مهنته وحتى عبر تدشين حملات خيرية لعلاج المحتاجين منهم، ويطمح في الوقت الراهن إلى تأسيس جمعية خيرية دائمة لهذا الهدف.
ولد الدكتور طاهر حكيم في 23 فبراير 1969م بمدينة باغووات في محافظة طشقند بجمهورية أوزبكستان، لأسرة تترية مسلمة بعد أن هجّرتها السلطات السوفيتية من شبه جزيرة القرم عنوة، وكان والده مديرا لمحطة الحافلات، وأمه معلمة متميزة تزيد خبرتها عن 35 سنة.
بيت تشبع بالإيمان
وخلال نشأته الأولى، تربى على الثقافة السوفيتية الإلحادية بالمدرسة، إلا أنه في بيته كان يتشبع بمعاني الإيمان سرًّا، وعن هذه الفترة يقول د.طاهر “كان القرآن يقرأ كثيرا في بيتنا خُفية، وكثيراً ما رأيت أبي وأصحابه يعتزلون في غرفة مستقلة بمفردهم حتى لا يراهم أحد، وكنت أراهم يرفعون أيديهم للصلاة والدعاء، ولا أفهم لماذا يتصرفون هكذا”.
ويتابع “في المناسبات الدينية المختلفة والتي كانت تتم سرًّا خارج بيتنا، كان أبي يحرص على اصطحابي معه ومشاركتي فيها، مما كان له أثر إيجابي في حياتي، برغم أن المشاركة في مثل هذه الشعائر آنذاك كانت محظورة وخطر على حياة الإنسان وعلى عمله الحكومي وقد تصل لإقالته من الوظيفة وسجنه”.
استثمار الوقت
ومما أسهم لاحقاً في مسيرة نجاحه أنه نشأ منذ طفولته على ضرورة استثمار الوقت في كل ما يعود عليه بالنفع، وعن هذا يتذكر “حين كنت صغيرا لم يكن عندي وقت فراغ، فمن المدرسة مباشرة إلى نادي الرياضة فنادي الموسيقى ثم إلى حصص الدروس الخصوصية”.
كما أن التحاقه بالجيش كان له تأثير كبير في حياته، “ففي البيت تكون تحت إشراف الوالد ورعاية الأم، أما في الجيش فأنت وحدك تتعلم المسئولية والاعتماد على الذات والاستقلالية”، وهو ما رباه على الرجولة والاعتماد على النفس، على حد قوله.
وكان د.طاهر قد التحق بالجيش خلال دراسته بجامعة الطب الأندجانية في المهجر، وبعد انتهاء فترة خدمته بالجيش السوفيتي عاد لاستكمال دراسة الطب، ولكن في جامعة الطب القرمية بشبه جزيرة القرم التي تتمتع بحكم ذاتي تحت الإدارة الأوكرانية، حيث عاد إلى بلاده أوائل التسعينيات من القرن الماضي بعد انحلال الاتحاد السوفيتي.
وأنهى الجامعة عام 1993 ثم تابع دراسته العليا في تخصص أمراض القلب وكان آنذاك يعمل طبيباً في المستشفى الرئيسي بالقرم، كما عمل أيضا بمستشفى حي أكتابرسك في محافظة كراسنوغورديسك القرمية، قبل أن ينتقل إلى المستشفى المركزي في مدينة سيمفروبل، عاصمة شبه جزيرة القرم سنة 1996، وفي سنة 2001م تم تعيينه مدير مستشفى “سيماشكو” الوطني المركزي، والذي يعد رائد الصحة في القرم ومصنع الكوادر الطبية، ثم أصبح في سنة 2007م نائباً لوزير الصحة.
طبيب “خيري”
ومثل والده قدوته، فقد تعلم منه حب الخير والحرص على مساعدة الآخرين، وعن هذا يقول د.طاهر “علمني أبي أن أبتسم لأي إنسان أقابله، وأودعه أيضا بالابتسام، وإذا ما طلب مني أي شخص أي شيء ألبي حاجته”.
ويوضح أثر ذلك في حياته العملية قائلاً: “بجانب عملي الوظيفي كطبيب أو مدير أو غيره أجتهد ألا أرد أي محتاج في مجال عملي، واعتدت أن أذهب بعد الدوام لفحص بعض من يحتاجون المساعدة في بيوتهم ليلاً، وفي أيام العطل، وأسعى معهم لمساعدتهم في شراء الأدوية بأسعار أقل عبر بعض المعارف ومحبي الخير”.
ويشدد على أنه يعتبر أن “الطبيب هو تبرع بحد ذاته، ويعد وقفا خيريا للآخرين، نظراً للظروف الصعبة التي نحياها”.
ويتابع “أخصص يوماً أسبوعيًّا لاستقبال الناس من ذوي الحاجات، ومن خلال هذه التجربة علمت أن الكثير منهم لا تكفيهم المساعدات الحكومية، ولا تسد حاجاتهم لدفع تكلفة العمليات وثمن الأدوية الباهظة؛ لذا قررت ألا أكتفي بنفسي، وأن أطلق حملة خيرية لسد احتياجاتهم بالتعاون مع اتحاد المنظمات الاجتماعية بأوكرانيا المعروف بـ(الرائد)”.
وبالفعل –يستطرد د.طاهر- “اجتمعت برئيس (الرائد) في القرم محمد علي طه، وعدد من التجار ورؤساء الجمعيات الخيرية والأطباء، ونظمنا الحملة التي جمعنا خلالها مساعدات للأطفال المحتاجين، وبعد نجاحها اتصل بي مجموعة من الناس واقترحوا أن نوسع نطاق الحملة لتشمل محافظات أخرى”.
ويضيف “في شهر رمضان الماضي نظمنا حملة جديدة بالتعاون مع النائب بالبرلمان صادخ طباخ، وخصصت شركة الاتصالات الحكومية رقماً مجانيًّا لاستقبال مكالمات المتبرعين، ونظمنا حفلي إفطار لجمع التبرعات، بمشاركة العديد من الشخصيات الدينية، في مقدمتها مفتي القرم ورئيس المجلس التتري والسيدة عائشة سيدامتوفى المناضلة وصاحبة التاريخ المشرف في دعم حقوق التتر المسلمين”.
ويتابع “والحمد لله خلال الإفطارين جمعنا تبرعات بقيمة 177 ألف هريفنيا (35 ألف دولار) لعدد من الأطفال المحتاجين للعلاج العاجل من المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات والقوميات الأخرى بالقرم، كما قمنا بحملة أخرى في عيد الأضحى لصالح عدد آخر من الأطفال، جمعنا خلالها 75 ألف هريفنيا (15 ألف دولار)”، معبراً عن سعادته بهذه الحملات التي “تدعم توحيد شعب القرم”.
وكما يرتقي في مناصبه ومسئولياته، يحلم د.طاهر بمزيد من الارتقاء والتوسع في عمله الخيري، حيث يقول: “الحملات الماضية كانت مؤقتة ومحددة لحالات معينة، بينما هناك باستمرار مرضى محتاجون للمساعدة، ومساعدات الحكومة لا تكفي، لذا أتمنى أن نتمكن من تأسيس دائرة مستقلة لها نظام ولوائح تبين فيها متى ولمن تقدم المساعدة، بحيث لا ينحصر جمع المساعدات في القرم فقط، بل نفتح باب التبرع والمشاركة من كل دول العالم العربي والإسلامي”.
كفاءة.. ورسالة
وحول أهمية هذه الشخصية على مستوى مسلمي أوكرانيا الذين يمثلون نحو 5% من إجمالي سكان تلك الدولة الأوروبية، يقول د.إسماعيل القاضي، رئيس “الرائد”، في تصريح خاص لـ”إسلام أون لاين.نت”: “تبرز أهمية شخصية كموسى طاهر من خلال كونه مسلماً مثقفاً في مجتمع معظمه من غير المسلمين”.
ويلفت إلى أن “مثل هذه الشخصيات تسهم في تصحيح الصورة الذهنية عن الإسلام لدى المثقفين من غير المسلمين في المجتمع الأوكراني، وتؤكد أن المسلم إنسان يحب العلم والتعلم ويسعى لخدمة مجتمعه والنهوض به من منطلق ما يتعلمه من دينه ومعتقده”.
من جانبه يوضح الدكتور محمد طه، مدير مكتب الرائد بالقرم ورئيس المركز الإسلامي بها، أن “د.طاهر أثبت جدارته كطبيب أولا، ثم من خلال المناصب التي شغلها ثانياً، ومجرد وجوده في هذا المنصب أعاد للمسلمين الثقة في أنفسهم، وبأن بينهم أناسا متميزين يعملون على خدمة أبناء شعبهم، ولا يتنكرون له كما يفعل البعض حين يصل إلى مثل هذا المنصب”.
ويشير إلى أن “من أهم ما يتميز به د.طاهر مساعدته لكل من يطلب مساعدته من أبناء القرم بشكل عام والتتر المسلمين من أبناء قوميته بشكل خاص، وحين تجلس معه تشعر بهمته العالية فهو دائم التفكير في مستقبل شعبه من القرم وإخوانه من التتر العائدين من المهجر، وفي كيفية بناء الكوادر المسلمة القادرة على التميز وخدمة الوطن، فضلاً عن أنه إنسان حريص على القيام بواجبه الديني أولاً والوطني ثانياً، فهو ملتزم بصلاته وواجباته الشرعية ومن رواد المركز الإسلامي”.
ويعيش في أوكرانيا نحو مليوني مسلم، يتمركزون في الشرق والجنوب، ويمثلون نحو 5% من تعداد سكان البلاد البالغ حوالي 46 مليون نسمة.
والقرم هي شبه جزيرة في جنوب أوكرانيا، ومساحتها 2700 كيلومتر مربع، وسكانها 2.5 مليون نسمة، تتمتع بحكم ذاتي ضمن الإدارة الأوكرانية، ولها برلمان وحكومة، وللمسلمين تمثيل في هذه الحكومة والبرلمان، غير أنه ضعيف، وقد عاشت في ظل الدولة العثمانية، ومن خلالها دخل الإسلام إلى أوكرانيا، ويقطن بها حوالي 500 ألف من المسلمين التتار.
وتوجد في القرم نحو 121 إثنية، ويمثل الروس نحو 40% من سكان الإقليم، والأوكرانيون حوالي 30%، والتتار نحو 20%، إضافة إلى 10% من أصول تركية وآذرية وأوزبكية وغيرها، بحسب إحصاءات لمركز “الرائد”.
وتعتبر الأقلية المسلمة من التتار في شبه جزيرة القرم، من أفقر فئات الشعب الأوكراني؛ لأنهم تعرضوا لحملات تهجير جماعي خلال حكم الاتحاد السوفيتي السابق، وتشتت مئات الآلاف منهم في بلدان آسيا الوسطى. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ونيل أوكرانيا استقلالها عام 1991 عاد الكثيرون منهم إلى موطنهم الأصلي وطالبوا باسترداد منازلهم وأراضيهم، لكنهم عانوا ظروفا معيشية قاسية وارتفعت نسبة البطالة بينهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* اسلام اون لاين ـ يناير 2010 ـ هاني صلاح.
** شكر وتقدير للدكتور قاسم أمين لمشاركته في التنسيق والترجمة للحوار.