مسلمون حول العالم ـ خاص ـ هاني صلاح
“اليوم نرى دَورًا حقيقيًّا لمسلمات كوسوفا في المجتمع، ليس في الحياة الدينية فحسب، ولكن أيضًا في جميع قضايا المجتمع، حيث يشاركن -من منظور القيم والهُوية الإسلامية- في حلِّ إشكاليات المجتمع المختلفة”.
بهذه الكلمات، ألقتِ الضوءَ الأستاذةُ ميريتا بوروتسي منسِّقة مدرسة علاء الدين بمدينة جيلان جنوب شرق البلاد، على التطور غير المسبوق لدَور المرأة المسلمة في المجتمع الكوسوفي.
وخلال الحوار أشارت الناشطة بقسم المرأة بالمشيخة الإسلامية في كوسوفا كذلك إلى أنَّ غياب دَور المرأة في المجتمع على مدار القرن العشرين، كان سببه الاحتلال الصربي لكوسوفا الذي سعى إلى إحداث شلل تامٍّ في جميع مناحي الحياة بكوسوفا، ومن ضمن ذلك الدَّور المجتمعي للمرأة الألبانية المسلمة.
جاء ذلك في حوار خاص مع “مسلمون حول العالم” حول واقع دَور مسلمات كوسوفا في المجتمع.
وإلى الحوار:
ـ في بداية حوارنا… هل من نبذة تعريفية بِكُم؟
ـ اسمي ميريتا بوروتسي، وُلدِتُ في العاصمة بريشتينا عام 1991م، وأكملتُ دراستي الابتدائية في منطقة هايفالي، ثم واصلتُ دراستي الثانوية في مدرسة “علاء الدين” الإسلامية، التابعة للمشيخة الإسلامية في دولة كوسوفا.
واصلت دراستي الجامعية في كلية الدراسات الإسلامية في بريشتينا، وأنهيت كذلك كلية الاقتصاد في تخصص الإدارة وعلوم الكمبيوتر، وحصلت على الماجستير من كلية الدراسات الإسلامية في بريشتينا.
حاليًّا، أعمل معلمةً للعلوم الدينية بمجلس مشيخة محافظة جيلان في جنوب شرق كوسوفا، ومنسقة وأستاذًا بالمدرسة الإسلامية “علاء الدين” في فرعها بمدينة جيلان.
ـ كيف كان واقع المرأة المسلمة في كوسوفا خلال حقبة الاحتلال الصربي في القرن العشرين؟
ـ خلال حقبة الاحتلال الصربي لكوسوفا على مدار القرن العشرين منذ عام 2013م وحتى عام 1999م، كان واقع الشعب الألباني في كوسوفا صعبًا جدًّا؛ لكونه يخضع لسلطة عدو، لذا لم يكن متاحًا للشعب الألباني في كوسوفا أداء الأنشطة وتنفيذ المشروعات الضرورية في كافة مجالات الحياة، ومن ذلك الأنشطة والمشروعات النسائية.
فيما يتعلَّق بالحياة الدينية، كان المشروع الرئيسي الباقي لمسلمي كوسوفا هو مدرسة علاء الدين الإسلامية، التابعة للمشيخة الإسلامية، وكان الهدف منها هو تخريج أئمة من الرجال لتيسير الشئون الدينية بمساجد كوسوفا، ولم يُتَح تعليم ديني للمرأة في المدرسة التي تأسَّست في عام 1951م. وبشكل عام، لم يكد يوجد دَور للمرأة في كوسوفا خارج بيتها، واقتصر دَورها الوطني الرئيسي على تربية الأجيال؛ من أجل الحفاظ على الوطن والهُويَّة معًا.
ولكن في عام 1997/1998 صدر قرار من المشيخة الإسلامية في كوسوفا بافتتاح قسم خاص للطالبات في مقرِّ المدرسة الرئيسي في العاصمة بريشتينا، وكذلك في فرعها الثاني في مدينة بريزرن في جنوب البلاد.
كان لهذا القرار الذي صدر في نهاية حقبة الاحتلال الصربي لكوسوفا، آثار إيجابية على واقع مسلمات كوسوفا، على الرغم من الصعوبات التي شهدتها هذه السنوات بعد اندلاع حرب كوسوفا في عامَي 1998/1999م، وأسفرت في نهاية المطاف عن تدخُّل الناتو ورحيل الصرب عن البلاد.
وبعد سنواتٍ من تواصل دراسات الطالبات في مدرسة علاء الدين الثانوية، نضجت الثمار الطيبة لهذا القرار المبارك؛ فقد واصلت كثير من الطالبات دراستهنَّ بكلية الدراسات الإسلامية في بريشتينا، كما واصل بعضهنَّ دراسته الجامعية الشرعية في الجامعات العربية والإسلامية خارج كوسوفا.
واليوم نلمس دورًا حقيقيًّا لمسلمات كوسوفا في المجتمع، ليس فقط في الحياة الدينية لنساء كوسوفا، ولكن أيضًا في جميع قضايا المجتمع؛ حيث يشاركن -من منظور القيم والهُوية الإسلامية- في حلِّ إشكاليات المجتمع المختلفة.
ـ أوضحتم أنَّ واقع المرأة الألبانية في كوسوفا قد تغيَّر مع رحيل الاحتلال الصربي في نهاية القرن الماضي؛ ومثَّلت بداية القرن الحالي الـ21 مرحلةً جديدةً لدَور المرأة المسلمة ومشاركتها في المجتمع.. فهل من إطلالةٍ على هذه المرحلة وهذا الدَّور؟
مع انتهاء الحرب في كوسوفا، وعودة الاستقرار، أُتيحت فرص أكبر لإشراك النساء المسلمات في تنظيم الحياة الدينية والاجتماعية في كوسوفا. وفي هذه المرحلة كان عدد الطلاب والطالبات الذين يحضرون دروسًا في كتاتيب مساجد كوسوفا بجميع المحافظات يزداد كلَّ يوم، ومن ثَم كان لمعلمات كوسوفا اللاتي تخرَّجن سواء في مدرسة علاء الدين الثانوية الإسلامية أو كلية الدراسات الإسلامية، أو اللاتي درسن في الكلية الشرعية بالدول العربية والإسلامية، دور محوري ورئيسي في تعليم الأطفال مبادئ الإسلام وأركان الإيمان والتلاوة الصحيحة للقرآن الكريم.
بمرور الوقت ازداد بشكل كبير أعدادُ الأطفال من البنين والبنات المُقبلين على المساجد والمدارس التعليمية بها (الكتاتيب)، وأصبحت هناك حاجة ماسَّة إلى العمل وَفق استراتيجية وخطة عمل دعوية وتعليمية ومجتمعية، وهذا ما دفع المشيخة الإسلامية إلى تأسيس قِسم المرأة في عام 2005م، وهو ما ساهم بشكل كبير في خلق مكانة أفضل للمرأة المسلمة في المجتمع الكوسوفي، وبات دَورها لا يقتصر على الشئون الدينية فحسب، بل شاركت في كافة المجالات الحياتية، سواء العلمية أو الخيرية أو حتى السياسية؛ وذلك بفضل العمل بشكل منظَّم وَفق استراتيجية موضوعة، وبمشاركة جميع المعلِّمات وتحت إشراف المشيخة وبدعمها.
ـ أشرتم إلى تطور دَور المرأة المسلمة في كوسوفا مع بدايات الألفية الثانية، فعَلى أرض الواقع، ما مدى تمتُّع المرأة المسلمة بحقوقها الدينية والمدنية، وخاصًة أنه ما زال يُنظَر إلى الحجاب والزيِّ الإسلامي للمرأة على أنه عائق في سبيل التعلُّم والتوظيف؟
ـ في السنوات الأخيرة، ازدادت حاجة المجتمع الكوسوفي إلى مشاركة المرأة المسلمة في الحياة الاجتماعية، وضربت النساء المسلمات نماذج فريدة رائعة في مختلف التخصصات والمجالات في كيفية ممارسة كل مهنة بأمانة ومسؤولية بجانب التميُّز والاقتدار.
ـ واليوم لدينا نساء مسلمات تخرَّجن في مجالات مختلفة ولهنَّ مشاركات في أعمال عديدة، ويُظهرن مهارات عالية وغير اعتيادية في أداء أعمالهنَّ. بالنسبة إلى الزيِّ الإسلامي في التعليم، غالبًا ما يكون الحقُّ في التعليم الابتدائي رهينة لتعليمات إدارية تحظر ارتداء الحجاب في المدرسة، وهي ذريعة تجيد مؤسسات أخرى استخدامها لمنع فتاة ترتدي الحجاب من العمل أو ممارسة أيِّ مهنة.
لكني أؤكِّد هنا أنه على الرغم من التحديات والتحيُّزات القانونية؛ فإنَّ المرأة المسلمة اليوم في كوسوفا تتمتَّع بمستوًى عالٍ جدًّا من التطوُّر على الصعيدين الشخصي والمهني، ونالت مراتب أكاديمية عالية، كما تبوَّأت مناصب مرموقة متقدمة. وكونها جزءًا من عمليات بناء الدولة الجديدة فقد انخرطت كذلك في المجالين السياسي والتشريعي، ولدينا في البرلمان نائبتان محجَّبتان، هما: النائبة الحالية لابينوتا ديمي، والنائبة السابقة بيسا إسماعيلي. بالإضافة إلى كلِّ ما سبق؛ فقد قادت وطوَّرت النساء المسلمات في كوسوفا العديدَ من المؤسسات والمشروعات لمساعدة الفئات المحتاجة.
كيف بدأتم التفكير في المشاركة المجتمعية؟ وما الأدوار التي أديتموها خلال مسيرتكن في المشاركة المجتمعية، وفي أي مجالات كانت؟ وماذا كانت أهم أولوياتكن في العمل المجتمعي؟
حينما تتربى في بيئة أسرية صحيَّة، تحصل على اقتراحات لمسارات حياتك المستقبلية. وفي هذا الصدد، اقترحت عليَّ والدتي أن أواصل تعليمي بالمرحلة الثانوية في مدرسة علاء الدين الثانوية الإسلامية، التي تدرس بجانب المواد العلمية الحكومية أيضًا مناهج دينية معتمدة رسميًّا.
ومثَّلت الدراسة في هذه المدرسة -الوحيدة في كوسوفا- الدافع الأساسيَّ لي لكي أنشط في أوساط المجتمع الذي أحيا فيه. فالمناهج الدينية التي درسناها، والتي شرحتها المعلمة بأفضل طريقة ممكنة، مثَّلت بالنسبة إليَّ انطلاقةً كبيرة في حياتي المستقبلية. فقد تعلَّمنا الهدفَ من خلق الإنسان ومعاني العبادة بشكلها الصحيح الواسع في الحياة، وأنَّ الإنسان هو خليفة الله تعالى في الأرض، وأنَّ عليه تعميرها بالخير والأعمال الصالحة، وأنَّ خير الناس هو قدوتهم الأولى في كلِّ مساعي الخير، وهو النبي صلَّى الله تعالى عليه وسلم، وهو الذي لم ينعزل عن المجتمع، وإنما خالط الناس، وكان أنفع الناس للناس وأصبر الناس على أذى الناس.
لكلِّ ما سبق؛ كانت محطَّتي الأولى في الانطلاق نحو النشاط والمشاركة في هذه المدرسة العظيمة، حيث بدأت في الأنشطة الطلابية بالمدرسة وكنت أمثِّل الطالبات بمجلس الطالبات المنتخب، وننظِّم فعاليات طلابية متعددة كالندوات الثقافية والعلمية، بجانب الأنشطة الإنسانية والتطوعية وغيرها.
كما أنني بعد التخرج، وبجانب عملي أستاذةً بالمدرسة ومنسِّقة/ مشرفة على فرعها في مدينة جيلان، كنت أُلقي المحاضرات على الطالبات، وأُشرِف معهنَّ على تنظيم الأنشطة المختلفة. ولم يتوقف دَوري عند حدود العمل الرسمي التعليمي، بل تخطَّاه إلى توجيه الطالبات كذلك نحو المشاركة والانطلاق، واختبار ما لديهنَّ من طاقات إبداعية ومهارات حياتية، والعمل على تنميتها وتطويرها في سياق مَحضنهم التربوي والتعليمي الثانوي (مدرسة علاء الدين – فرع جيلان).
أمَّا بالنسبة إلى أولوياتي في حياتي وأثناء محطات مشاركاتي المجتمعية، فكانت تتمثَّل دومًا في تعلُّم مبادئ وقيم وأخلاقيات الدين الإسلامي أولًا بشكل نظري، ثم التفرُّغ والعمل على تطبيقها على نفسي أولًا، وتحويلها إلى واقع في حياتي العملية، بعدها كنت أحمل عبء تعليم ما تعلمته وتطبيقه ونقله إلى الأخريات من حولي من بنات جنسي، الفتيات والنساء، سواء في المدرسة أو في المسجد الذي أُدرِّس فيه مبادئ الإسلام للأطفال الصغار والنساء الكبيرات. وأخيرًا، كان الهدف العام هو الوصول إلى مرحلة القدوة العلمية الإيجابية لصورة المرأة المسلمة في المجتمع، والنشاط في هذا السياق الذي يتناغم مع مبادئ الدين وقيم الإنسان وتقاليد المجتمع.
ـ كيف تعاملتم مع التحديات التي تواجهكم في هذا المسار الذي اخترتموه لحياتكم؟
ـ لا شكَّ أنَّ مسار الدعوة الإسلامية مليء بالتحديات والصعوبات، خاصةً عندما يسعى البعض إلى تغيير قِيَم المجتمع وعاداته بكلِّ وسيلة ممكنة. وحتى اليوم واجهنا العديد من العقبات والتحديات خلال حياتي العملية، ولم نتراجع إلى الخلف أبدًا، بل عزمنا على الاستمرار والمُضيِّ قُدمًا نحو الأمام في أهدافنا التي تتلخَّص في رفع مبادئ الإسلام والقيم الإنسانية في كلِّ وسط نحيا ونشارك فيه. وحينما تعرَّف إلينا بعض مَن كان يختلف معنا أو حتى يهاجمنا، واتَّضح لهم صدق هدفنا وصحَّة منهجنا في الحياة، انصرف وتوقف عن نقدنا، وأقرَّ لنا بقيمة دَورنا المجتمعي.
ـ إذن، ما هي أهم الإنجازات والنجاحات التي تحقَّقت لكم حتى اليوم؟
بدايةً، أعظم نجاح في حياتي كان من تيسير الله تعالى لي بأن فتح لي هذا الطريق العظيم في مجالات الدعوة والتعليم الإسلامي، حيث لم أكن أفكر أو أتخيَّل في طفولتي أنني سوف أسير في هذا الطريق، وتكون هذه هي رسالتي في الحياة ودَوري في المجتمع.
ثانيًا، وفَّقني الله تعالى كي أكون سببًا في هداية الآخرين وتعليمهم مبادئ الإسلام والقيم والأخلاقيات الإنسانية؛ كي يكونوا صالحين في أنفسهم ونافعين لمجتمعاتهم، ومرَّت بي مواقف كنت سببًا في إنقاذ حياة بعض الناس.
ثالثًا، في مجال الدعوة والإعلام، وفِّقت في تنفيذ برنامجي”Horizont Shprese” ، أي آفاق الأمل، الذي يقدم الإسلام وتوجيهات الدين بشكل جميل، يعكس مدى سُموِّ هذا الدين، وأنه يرقى بالإنسان والأسرة والمجتمع ككلٍّ، ويُعرض على قنات DTV)).
وأخيرًا، من نِعم اصطفاء الله أن اختارني ويسَّر لي أن أكون -وبعد 70 عامًا من تأسيس مدرسة علاء الدين الثانوية الإسلامية- على رأس المدرسة الموازية/ الفرعية في مدينة جيلان، وهذه هي المرة الأولى التي تصبح فيها مديرة مدرسة دينية امرأة في تاريخ كوسوفا، بما يعكس المستوى الذي وصلت إليه المرأة المسلمة في كوسوفا في مشاركتها في مؤسسات المجتمع.
ـ وختامًا لحوارنا.. هل من نصائح لكم للفتيات والنساء المسلمات من واقع تجربتكم وخبراتكم السابقة؟
ـ أقدِّم للنساء وهنَّ بناتي وأخواتي وأمهاتي نصيحتين:
ـ الأولى: معرفة قيمة هذا الدين العظيم الذي ننتمي إليه، معرفةً تدفعنا إلى الشعور بالفخر والاعتزاز كوننا مسلمين… معرفةً تملْء قلوبنا محبةً لهذا الدين… معرفةً تُحفِّزنا كلَّ يوم إلى تعلُّم ديننا بشكل أعمق وتطبيقه بشكل أفضل.
هذه المعرفة لا بدَّ أن توجِّهنا كي نكون نافعين في المجتمع، ولا يتسنَّى ذلك إلا عبر حماية أنفسنا من كافة مشاعر الغطرسة والتكبُّر والأنانية والجشع وغيرها من الصفات السلبية التي تعدُّ أمراضًا تسري في أوصال المجتمع فتُهلكه.
ـ النصيحة الثانية: وهي مبنية على الأولى؛ إننا بلا شكٍّ سوف نواجه التحديات، فعلينا ألَّا ننزعج، بل نواجهها ونحوِّل مسارها لصالح رسالتنا والقيم التي ندعو إليها، وبهذا نستطيع تحويل كل موقف صعب لصالحنا ولصالح أهدافنا النبيلة في الحياة.