سلسلة أعلام مسلمي بريطانيا
مسلمون حول العالم ـ متابعات ـ هاني صلاح
يواصل الكاتب الصحفي المقيم في لندن، الدكتور مجدي سعيد، إلقاء الضوء على صفحات ناصعة من تاريخ الإسلام والمسلمين في بريطانيا، من خلال التعريف بشخصيات إسلامية بريطانية أسلمت أو وفدت إليها من دول إسلامية وكان لهم دور تاريخي في النهوض بالمجتمع المسلم البريطاني..
وإلى شخصية هامة كان لها دور محوري في تاريخ الوجود الإسلامي في بريطانيا..
بقلم/ الدكتور مجدي سعيد ـ كاتب صحفي مقيم في لندن
إذا أردت الكتابة عن الشخصيات المحورية في تاريخ الوجود الإسلامي في بريطانيا، فلا يمكنك تجاهل شخصية خواجة كمال الدين Khawaja Kamal-ud-Din المحامي الهندي الذي أعاد افتتاح أول مسجد دائم في بريطانيا، والذي أسس أول بعثة إسلامية فيها، والذي اجتذب بمحاضراته وكتابته وصحفه أعدادًا كبيرة من البريطانيين إلى الإسلام.
ليست بالأمر الهين!
لكن الكتابة عن خواجة كمال الدين ليست بالأمر الهين، لأنه بقدر ما قدمه من نفع للوجود الإسلامي في بريطانيا في النصف الأول من القرن العشرين، بقدر ما يحدث من لغط حوله بسبب حقيقة تتلمذه على يد مؤسس الأحمدية الميرزا غلام أحمد، وإن كانت الحقيقة أيضا أن الأحمدية حدث فيها انشقاق لاحقا، فمنهم من صدق الميرزا في كل دعاواه، وهؤلاء أرسلوا بعثتهم الخاصة فيما بعد وأسسوا مسجدهم، وهناك من يسمون بأحمدية لاهور، وهؤلاء لا يرون في الميرزا سوى رجل مصلح، وهؤلاء منهم خواجة كمال الدين، الذي يروي المؤرخون أنه لم ينحى في دعوته في بريطانيا أي منحى طائفي أو مذهبي، وأنه عادى بعثة القاديانية الأحمدية.
وقد اختلفت مواقف المعاصرين في العالم الإسلامي من هذين الفريقين من فرق الأحمدية، فمنهم الشيخ رشيد رضا الذي ثمن على صفحات المنار جهود فريق لاهور في الدعوة للإسلام في بريطانيا وأوروبا، ومنهم الشيخ محب الدين الخطيب الذي ظل منتقدا متشككا في الفريقين على صفحات مجلة الفتح.
من هو خواجا كمال الدين؟
لكن دراسة جهود خواجا كمال الدين تحديدا ترجح – بحسب ما طالعت – رأي الشيخ رشيد رضا، لذا دعونا نعرف من هو خواجا كمال الدين وما هي جهوده باختصار بحسب ما يقتضيه هذا اللون من المقالات القصيرة نسبيا الذي سرت عليه في هذه السلسلة.
ولد خواجة كمال الدين في البنجاب عام 1870 وينحدر من عائلة كشميرية تميزت بالعمل لخدمة الإسلام. كان جده عبد الرشيد، وهو شاعر مشهور، قاضيا أو رئيس قضاة المسلمين في لاهور خلال فترة حكم السيخ. وكان أخوه الأكبر خواجة جمال الدين مسؤولاً عن نشر التعليم بين المسلمين في ولاية كشمير وجامو.
تلقى تعليمه في كلية فورمان المسيحية في لاهور، مما يفسر معرفته العميقة بالكتاب المقدس، وهي المعرفة التي كانت مفيدة جدا في تحقيق نتائج جيدة لمهمته في لندن، حيث شارك كثيرا في المناقشات اللاهوتية مع المتخصصين المسيحيين. وفي عام 1893 حصل على درجة البكالوريوس ووسام جامعة البنجاب في الاقتصاد، وأدى ذلك إلى تعيينه رئيسا لقسم التاريخ والاقتصاد في الكلية الإسلامية في لاهور، والذي شغله لمدة أربع سنوات، ليصبح مديرا للكلية.
وبعد حصوله على ليسانس الحقوق في عام 1898، مارس المحاماة بنجاح كبير في بيشاور، حيث مكث هناك لمدة ست سنوات، وفي عام 1903، عاد إلى لاهور، حيث سرعان ما أصبح أحد المحامين الرئيسيين في محكمة البنجاب الرئيسية، واكتسب تقدير واحترام المسؤولين الحكوميين وغير الحكوميين. وبقي في لاهور حتى مغادرته إلى إنجلترا عام 1912.
وفي بداية هذه الفترة الأخيرة أصبح واعيا بنوع الخمول الذي كان الإسلام ينحدر إليه تدريجياً وبدأ يستغل أوقات فراغه في إلقاء محاضرات عن الإسلام في جميع أنحاء الهند، وسرعان ما اعترفت جامعة عليكرة الإسلامية بخدماته ومنحته زمالة، كما أصبح عضوًا في مجلس أمناء تلك الجامعة.
لندن.. والطريق الأكثر صعوبة!
وفي عام 1912 كان في ذروة مسيرته المهنية كمحامي، مما ضمن له مستقبلا مربحا ورائعا. لكنه تخلي عن الرفاهية المادية في الهند، من أجل تكريس نفسه بالكامل لخدمة الإسلام. ومن أجل القيام بذلك، اختار الطريق الأكثر صعوبة: فبدلاً من البقاء بين مواطنيه في محيط مألوف، قرر الذهاب “للدفاع عن قضية الإسلام” في أوروبا، واختار لندن مركزاً لنشاطه.
وعند وصوله إلى لندن، استقر في البداية في منطقة ريتشموند وبدأ على الفور بإلقاء المحاضرات، والخطب والمشاركة في اجتماعات الجمعيات اللاهوتية البريطانية ونشر المقالات وما إلى ذلك. وأثناء ذلك، سمع هو ومواطنه وصديقه الشيخ نور أحمد بالصدفة أنه يوجد في منطقة ووكينج، وهو مكان صغير على بعد حوالي 48 كيلومتر من لندن، مسجد غير مأهول، تحول تدريجياً إلى أنقاض بسبب نقص الرعاية.
كان هذا المسجد قد تم بناؤه عام 1889 بفضل منحة كريمة من حاكمة بوبال، بالهند، بناءً على طلب المستشرق الدكتور هنري لايتنر ليكون مكانا لصلاة الطلاب. وبعد وفاة لايتنر، لم يعتن أحد بالمسجد، وهو ما يفسر حالته المتدهورة في عام 1912. ولم يتردد الشيخ نور أحمد وخواجة كمال الدين في الاستحواذ عليه بعد التفاهم مع ورثة لايتنر. وتم تشكيل أمانة من أجل الاحتفاظ بسندات ملكية المسجد، الذي أصبح خواجة كمال الدين إمامًا له في عام 1913، ومن ثم انتقل خواجة كمال الدين للعيش قرب المسجد في ووكينج، وسرعان ما أسس ما عرف باسم بعثة ووكينج الإسلامية The Woking Islamic Mission.
وفي عام 1912، بدأ بإصدار المجلة الشهرية “إسلاميك ريفيو Islamic Review” على نفقته الخاصة، والتي سرعان ما ذاع صيتها في جميع البلدان الإسلامية في العالم، حتى في أقصى الزوايا. وفي العام التالي، قام، على نفقته الخاصة أيضًا، بإصدار مراجعة شهرية أخرى، وهي “رسالة إشاعة الإسلام Risalae Isha’at-i-Islam “، لمواطنيه الناطقين باللغة الأردية. وظل رئيس تحرير هاتين الجريدتين الشهريتين حتى آخر لحظة في حياته.
ومن خلال نشاط خواجة كمال الدين سواء من خلال المحاضرات والندوات داخل مقر البعثة التي أسسها وخارجها، ومن خلال المناقشات والمقالات والكتيبات تمكن جذب اهتمام ألف رجل وامرأة إلى الإسلام خلال حياته، وذلك بحسب السيرة التي كتبها أرسلان بودنويتس في عدد “إسلاميك ريفيو” الصادر في ديسمبر من عام 1949، من أبرزهم اللورد هيدلي ومارمادوك بيكتال.
وقد كان أقربهم إليه اللورد هيدلي الذي كان رفيقه في حجه الثاني عام 1923، والذي أسس بمشورة خواجة كمال الدين “الجمعية الإسلامية في بريطانيا العظمى Muslim Society in Great Britain” والتي كانت مفتوحة للمسلمين من جميع أنحاء العالم دون تمييز بحسب الجنسية أو الطائفة، وظل اللورد هيدلي رئيسها حتى وفاته في عام 1935.
وكما قلنا فقد تميز النشاط الدعوي لخواجة كمال الدين بالارتفاع فوق الطائفية، وفي هذا الصدد، قال تلميذه ومعاونه، السيد يعقوب خان، رئيس تحرير المجلة الأسبوعية الإنجليزية “ذا لايت The Light”: كانت “لا طائفة في الإسلام” سمة أخرى بارزة في حملة خواجة كمال الدين. وقد قدم ووكينج، الذي اجتمع تحت رعايته السنة والشيعة والوهابيون والأحمديون كأخوة في الإسلام، مشهدا رائعا للإسلام الموحد الذي لم يكن من الممكن إلا أن يلفت انتباه الشعب الإنجليزي.
وبعد فترة وجيزة من نهاية الحرب العالمية الأولى، بدأ تأثير خواجة كمال الدين يتجاوز حدود إنجلترا ليغطي أوروبا بأكملها تقريبا، وكان معروفا بشكل خاص في فرنسا وألمانيا وبلجيكا التي زارها عدة مرات. وبفضل جهوده تم إنشاء بعثة إسلامية في برلين، حيث تم بناء مسجد في نهاية العشرينيات من القرن الماضي. كما كان لنشاطه وكتاباته صدى في الأوساط الإسلامية حول العالم، سواء في الهند أو في مصر أو غيرهما.
وفضلا عن دوره في تأسيس مسجد ووكينج وفي الدعوة للإسلام، فقد قدم خواجة كمال الدين إنتاجا وفيرا من الكتب تجاوز بحسب المصدر المذكور 100 كتاب منها كتابيه اللذين رد بهما على بعض الهجمات التي شنتها بعض الأوساط الإنجليزية على الإسلام، وهما “الهند في الميزان India in the Balance” و”البيت منقسم”The House Divided ، ومنها كذلك كتب مصادر المسيحية The Sources of Christianity، والنبي المثالي The Ideal Prophet، ونحو الإسلام Towards Islam، وإنجيل العمل Gospel of Action كما كان قد بدأ في تفسير القرآن لكنه لم يكمله قبل وفاته، وكما يروى عنه فقد كانت معظم مواعظه من القرآن.
وبحلول عام 1927، بدأت صحة خواجة كمال الدين تتدهور تحت وطأة العمل وشعوره بالإعياء، فغادر إنجلترا إلى موطنه الأصلي. وقبل مغادرته بريطانيا، قام بإنشاء صندوق ائتماني وجعل ممتلكاته بالكامل، والتي تقدر قيمتها بأكثر من مليون ونصف، وقفًا لبعثة ووكينج الإسلامية، كما قام بنقل حقوق الملكية في منشوراته ومجلة “إسلاميك ريفيو” إلى البعثة. ونتيجة للإجهاد الزائد بدأ يعاني من مرض السكري والسل، وبفضل بنيته القوية ناضل ضد الموت لمدة خمس سنوات. وقبل ساعات قليلة من وفاته في لاهور، باكستان، في 28 ديسمبر 1932، كان قد أضاف الفقرة الأخيرة إلى تفسير القرآن الكريم الذي ظهر في عدد أبريل ومايو 1933 من مجلة إسلاميك ريفيو.
وختاما، فإن دور خواجة كمال الدين ومكانته في تاريخ تأسيس الوجود الإسلامي في بريطانيا لا يمكن إنكاره أو تجاهله، سواء في كونه أول مبتعث لنشر الإسلام هناك، أو لدوره في تأسيس أول مسجد دائم في بريطانيا، وفي نشر الإسلام بين البريطانيين.
ويبقى تمحيص ودراسة هذا الدور وتقييم مدى نجاحه في الدعوة للإسلام دون الدعوة لطائفة بعينها أمرا مرهونا بجهود باحثين مسلمين يتوفرون على سيرته وأعماله، مستفيدين مما نشر عنه من باحثين مسلمين وغير مسلمين.
ـ مصدر النشر ولمزيد من المعلومات والروابط: ( اضغط هـنـا ).