مسلمون حول العالم
نافذتك إلى أخبار الأقليات المسلمة

أكاديمي من الأقلية المسلمة في بلغاريا: مسلمو بلغاريا أفضل حالًا إلا أنهم ما زالوا تحت وطأة إرث العداء والعنصرية – 2

حوار خاص مع الأكاديمي "بصري ذي العبيد تشالشكان" عن تراث مسلمي بلغاريا

الجزء الثاني من حوار: “مسلمو بلغاريا بين الحاضر والمستقبل”

مسلمون حول العالم ـ خاص
أجرى الحوار: هاني صلاح

“حالنا اليوم أفضل بكثير مما كان عليه سابقًا في ظل الحكم الشيوعي لبلغاريا؛ لكننا لم نتجاوز حتى اليوم مصاعب نعاني منها منذ 140 سنة، وفي مقدمتها النظر إلينا كمواطنين من الدرجة الثانية، بل الثالثة في المجتمع”.

بهذه الكلمات، وصف الأكاديمي “بصري ذي العبيد تشالشكان“، حاضر مسلمي بلغاريا الذي يمر بفترة انتقالية تحمل بشائر مستقبل واعد، لكنها في ذات الوقت تعاني من إرث مؤلم من الاضطهاد والنظرة الدونية.

جاء ذلك في حوار خاص مع “مسلمون حول العالم” حول حاضر ومستقبل الإسلام والمسلمين في جمهورية بلغاريا التي تقع في أقصى شرق منطقة البلقان، وتمثل البوابة الجنوبية الشرقية لأوروبا على الشرق الإسلامي.

ـ وإلى الجزء الثاني من الحوار والمتعلق بالتعريف بتراث مسلمي بلغاريا ومؤسساتهم وأوقافهم الإسلامية.

بلغاريا.. بلد التاريخ والحضارة

ـ نود التعرف أكثر على بلغاريا كدولة وشعب وما يميزها عن دول المنطقة المجاورة.

ـ تغيرت حدود بلغاريا الحالية كثيرًا عبر التاريخ على يد التراقيين والرومان والبلغار والعثمانيين الذين حكموا المنطقة وتركوا فيها آثارهم الخاصة، فقد كشفت التنقيبات الأثرية عن أقدم الكنوز الذهبية في مدينة فارنا على ساحل البحر الأسود، والتي يعود تاريخها إلى 4600-4200 قبل الميلاد.

وترجع أصول البلغار في الحقيقة إلى القبائل التركية، إلا أن هذا مما يجهله كثير من الناس، فقد هاجر البلغار من وسط آسيا واتجهوا غربًا وأسسوا مدينة بلغار على ضفاف نهر الفولجا واستقروا في المنطقة، بينما استقر قسم آخر على ضفاف نهر الدانوب، وقد دخل سكان مدينة بلغار في الإسلام إبان العصر العباسي في عام 922م تقريبًا، بينما اعتنق سكان نهر الدانوب الديانة المسيحية عام 864م، ومع الزمن تأثروا بالقومية السلافية وفقدوا هويتهم التركية.

وقد كانت الدولة البلغارية التي عاشت عصرها الذهبي في ظل حكم القيصر سمعون حوالي القرن العاشر الميلادي، تصل حدودُها من شرق البلقان على شواطئ البحر الأسود إلى جنوب وغرب البلقان على شواطئ بحر إيجه والبحر الأدرياتيكي.

وفي القرن التاسع عشر ومع تزايد الشعور القومي بدأت تظهر فكرة (بلغاريا العظمى)، والتي كانت السبب الرئيس لحروب البلقان عام 1911-1912م، والتي أسفرت كذلك عن خسارة الدولة العثمانية للمنطقة وانسحابها منها.

الإسلام في بلغاريا

ـ التواجد الإسلامي في بلغاريا عريق ويمتد لقرون عديدة.. فما حجم الآثار والتراث الإسلامي في بلغاريا؟

ـ تعد بلغاريا أندلس العثمانيين المفقود، فقد فتح العثمانيون بلغاريا بأكملها قبل فتحهم إسطنبول وبعض مدن الأناضول، ولذلك ولدت الدولة العثمانية كدولة من دول البلقان، ومع الدولة العثمانية تحولت المنطقة للإسلام بعد إقامة كثير من المسلمين فيها، إضافة إلى ما أنشأته الدولة العثمانية في المنطقة من منشآت علمية ودينية واقتصادية واجتماعية.

ووفقًا لدراسة حديثة أجراها بعض المؤرخين البلغار، فإن أكثر من ربع الأراضي البلغارية الحالية هي أراضٍ وقفية، وقد وضع الأتراك بصمتهم الواضحة في المنطقة من خلال آثارهم الكثيرة التي أنشؤوها في كل مدن البلقان، مثل: الجسور، والطرق، والحمامات، والمطابخ، والسُّبل، والخانات، والأسواق، والمدارس، والتكايا، والمساجد.

وبحسب الدراسة التي أجراها المؤرخ المعماري التركي الشهير الدكتور أكرم حقي أيفردي، والتي صدرت عام 1982 في أربعة مجلدات تحت عنوان (آثار العمارة العثمانية في أوروبا)، فقد استطاع إحصاء 3339 أثرًا عثمانيًّا في بلغاريا، وذكر أن الرقم الحقيقي أكبر من ذلك، إلا أنه لم يستطع الوصول إلى كثير من الأماكن بسبب عرقلة النظام الشيوعي الحاكم في بلغاريا لعمله، مما اضطره للاكتفاء بالمعلومات الواردة في وثائق الأرشيف.

جوامع بلغاريا الأثرية

وماذا عن الجوامع التاريخية الأثرية؟

قمتُ بدراسة حول عدد المساجد العثمانية في بلغاريا مقارنة مع عدد المساجد الحالية، وجاءت النتائج على النحو الآتي: خلال العهد العثماني كان في مراكز المدن البلغارية حوالي 447 مسجدًا، بينما لم يبق اليوم إلا 35 مسجدًا، 26 منها مفتوحة للعبادة فقط، وأما المساجد التسعة الباقية فقد تحولت أربعة منها لمتاحف، و3 منها إلى كنائس، واثنان منها بحاجة إلى الإصلاح والترميم، ووفقًا لهذا فإن 94% من المساجد في مراكز المدن دمرتها الدولة، في حين نجت من سياسة التدمير 6% فقط من المساجد لتبقى شاهدة على أثر العثمانيين في المنطقة، بينما كان قديمًا حوالي 342 مسجدًا في مراكز المناطق والبلدات، وبقي منها اليوم 105 فقط، مما يدل على أن سياسة التدمير طالت 70% من المساجد في هذه المناطق.

الأوقاف الإسلامية في بلغاريا

ـ يرتبط تراث مسلمي بلغاريا بالأوقاف الإسلامية؛ فهل من إطلالة على ما أصاب أوقاف المسلمين في بلغاريا خلال الفترات العصيبة على مدار القرن العشرين؟

ـ ظلت قضية الأوقاف التي خلفها العثمانيون وراءهم بعد خروجهم من بلغاريا مسألة إشكالية حتى وقتنا الحاضر، وما زالت الأبحاث والدراسات جاريةً حول هذه الأوقاف، وفي إحدى هذه الدراسات عثر أحدُ الباحثين على 402 وقف أنشأها العثمانيون في الأراضي البلغارية وفق الأوقاف المسجلة في أرشيف المديرية العامة للأوقاف التركية.

ولمساعدة القراء على فهم ما يعنيه الوقف في تلك الفترة، أود أن أذكر المثال الآتي:

أنشأ مشير مدينة سيلسترة وقائد قلعة مدينتي روستشك وفارنا المارشال ميرزا سعيد باشا في 1846.01.20 وقفًا لتمويل المنشآت الإسلامية في المدن الآتية:

– في روستشك جامع ومدرسة ابتدائية ومدرسة دينية
-في توتراكان جامع
-في دوبريتش جامع ومدرسة دينية
-في باباداغ الواقعة الآن في حدود دولة رومانيا مدرسة دينية
-في شومنو تكية نقشبندية مركزية وداخلها جامع
-في كوستانجه في قرية محمود كابوسو الواقعة الآن في رومانيا جامع
-في قرية مارتين التابعة لمدينة روستشك ثلاثة آبار
-في دوبريتش سبيل وبئر ماء

فنرى أن وقفًا واحدًا كان ريعُه يُنفَق على ما مجموعه خمسة مساجد، وثلاث مدارس دينية، ومدرسة ابتدائية، وتكية، وأربع آبار، وسبيل ماء، إضافة إلى ترميمه جامع ومدرسة أحمد باشا في منطقة يني بازار.

وبهدف تأمين نفقات هذه المؤسسات، أوقف ميرزا سعيد باشا كثيرًا من المنشآت الاقتصادية، منها 35 دكانًا ومتجر واحد لبيع القهوة ومقهى واحد، و14 دونمًا من كروم العنب، وبعض البساتين في روستشك، وكذلك أربع دكاكين، وأربعة مستودعات، وأربعة مقاهٍ في توتراكان، وأيضًا مسلخ في سيليسترة، ومطحنتان في سوفورفو، ومطحنة في بالجيك، وخان مكون من عشر غرف وإسطبل ومقهى، ومنزل في يني بازار.

وبعد أن أوقف الباشا كل هذه العقارات وأخرجها من ملكيته الخاصة إلى ملكية الوقف، فإنه كتب تفاصيل استخدام ريع الوقف، ومصارفه، وشروط القائمين عليه والمستفيدين منه في وثيقة تسمى الوقفية.

وكل ما ذكرناه في الأعلى من العقارات التي بلغت 64 عقارًا و14 دونمًا وبعض البساتين إنما هي عقارات عائدة لوقف واحد من ضمن 402 وقف كانت منتشرة في البلقان، وطبعًا لم تكن كل الأوقاف على سوية واحدة من الغنى كهذا الوقف، ولكن لو افترضنا أن لكل وقف 10 عقارات وسطيًّا، فهذا يعني أن لدينا أكثر من 4000 عقار موقوف، بينما لم يبق منها الآن -بحسب مؤسسة الإفتاء الرسمية- إلا 200 عقار موقوف عام 2020، مما يُظهر مآل الأوقاف وضياع أكثرها بعد خروج العثمانيين من الأراضي البلغارية.

ومما يبعث الأسى أكثر أن بعض المساجد المهمة الآن صارت ملكًا للحكومة التي تجتهد في تحويلها إلى متاحف، ولا تمنحها لمؤسسة الإفتاء لإحيائها وإقامة الشعائر الدينية فيها، مثل: جامع صوفيا الكبير، وجامع كورشونلو في كارلوفا، وجامع حمزة بك في ستارا زاغروفا، وجامع السلطان محمد الفاتح، وجامع أحمد بك في كوستانديل، والجامع القديم في فراتسا، وجامع كراجا باشا في جوسته ديلتشف، وجامع إبراهيم باشا في رازجراد، علمًا بأن بعض هذه المساجد التي تُعد تُحفًا معمارية حولتها الحكومةُ إلى كنائس، مثل: جامع كرا في صوفيا، وجامع كوجا سنان باشا في أوزونكوفا، وكلاهما من بناء المعماري التركي الشهير سنان.

جهود استعادة الأوقاف

ـ إذن كيف تسير الجهود الحالية لاسترداد هذه الأوقاف من جهة، ومن جهة أخرى هل يتم ترميمها وإعادة بنائها؟

ـ أعيدت ملكية بعض الأوقاف إداريًّا، وبعضها استعيد عبر المحاكم، فعلى سبيل المثال: رفعت أكثر من 90 دعوى قضائية في عام 2013، ولكن لسوء الحظ لم تسفر أي منها عن نتيجة إيجابية.

وفي السنوات الأخيرة بدعم من تركيا استعاد المسلمون بعض المساجد ورمموها لإحياء دورها في الحياة الدينية من جديد، مثل: مسجد الجمعة في بلوفديف، ومسجد القاضي سيف الله أفندي في صوفيا، والمسجد القديم في هاسكوفو، ومسجد السلطان بايزيد في آيتوس، ومسجد ميرزا سعيد باشا في روستشك، ومسجد شريف خليل باشا المشهور بمسجد تومبل في شومن.

وتقوم الدولة الآن بترميم بعض المساجد المغلقة منذ فترة طويلة، مثل: مسجد رازغراد إبراهيم باشا، الذي كان مغلقًا منذ ثلاثين عامًا حتى نمت الأشجار فوقه، ولكن للأسف عند الانتهاء من ترميم هذا المسجد ستستخدمه الدولة كمتحف، حيث إن أملاك الدولة لا تُستخدم أماكن للعبادة.

ونرجو من سلطات الدولة أن تتصرف بحكمة وتسمح للمسلمين باستخدام هذا المسجد الذي بُني في الأصل دارًا للعبادة، فإبراهيم باشا لم يبنِ هذا المسجد ليكون متحفًا، وإنما ليكون دارًا للعبادة إلى يوم القيامة كما يتضح من وثيقة الوقف التي نص فيها على تخصيص أوقاف كثيرة لضمان استمرار العبادة في المسجد، فلم يكتف القائمون بنهب أوقاف المسجد والاستيلاء عليها، بل إنهم ما زالوا يصرون على إخراج المسجد عن وظيفته الموقوف لأجلها وتحويله إلى متحف، فأين العدل والإنصاف في هذا التصرف؟

ـ طالع الجزء الأول من الحوار:

أكاديمي من الأقلية المسلمة في بلغاريا: مسلمو بلغاريا أفضل حالًا إلا أنهم ما زالوا تحت وطأة إرث العداء والعنصرية – 1

 

التخطي إلى شريط الأدوات