مسلمون حول العالم
نافذتك إلى أخبار الأقليات المسلمة

أكاديمي من الأقلية المسلمة في بلغاريا: مسلمو بلغاريا أفضل حالًا إلا أنهم ما زالوا تحت وطأة إرث العداء والعنصرية

حوار خاص مع الأكاديمي "بصري ذي العبيد تشالشكان"

الجزء الأول من حوار: “مسلمو بلغاريا بين الحاضر والمستقبل”

مسلمون حول العالم ـ خاص
أجرى الحوار: هاني صلاح

“حالنا اليوم أفضل بكثير مما كان عليه سابقًا في ظل الحكم الشيوعي لبلغاريا؛ لكننا لم نتجاوز حتى اليوم مصاعب ما زلنا نعاني منها منذ 140 سنة، وفي مقدمتها النظر إلينا كمواطنين من الدرجة الثانية، بل الثالثة في المجتمع”.

بهذه الكلمات، وصف الأكاديمي “بصري ذي العبيد تشالشكان” حاضر مسلمي بلغاريا الذي يمر بفترة انتقالية تحمل بشائر مستقبل واعد، لكنها في الوقت ذاته تعاني إرثًا مؤلمًا من الاضطهاد والعنصرية.

جاء ذلك في حوار خاص مع “مسلمون حول العالم”، حول حاضر ومستقبل الإسلام والمسلمين في جمهورية بلغاريا التي تقع في أقصى شرق منطقة البلقان، وتمثل البوابة الجنوبية الشرقية لأوروبا على الشرق الإسلامي.

وإلى الجزء الأول من الحوار المتعلق بتوصيف الحاضر واستشراف المستقبل..

ضيف الحوار

ـ اعتدنا في كافة حواراتنا تقديم ضيوفنا إلى جمهورنا؛ لذا نود منكم أن تعرضوا لنا نبذة تعريفية عنكم تلامسون فيها الجانب الإنساني، والاجتماعي، والدعوي، والوظيفي من حياتكم.

ـ اسمي “بصري ذي العبيد تشالشكان”، ولدت سنة 1978م في مدينة “دوبريتش” الواقعة شمال شرق بلغاريا، لعائلة من أصول تركية، وترعرتُ في هذه المدينة إلى الصف الثامن (نهاية المرحلة الإعدادية أو المتوسطة).

ـ بعدها، هاجرتُ مع عائلتي إلى تركيا، والتحقتُ بثانوية الأئمة والخطباء، ثم بكلية الشريعة في مدينة إسطنبول، ثم حصلت على درجة الماجستير في التاريخ الإسلامي بجامعة مرمرة.

ـ لاحقًا بدأت في كتابة سلسلة من الكتب؛ ففي سنة 2019م كتبت كتابي الأول باللغة التركية، بعنوان: “الإسلام في بلغاريا بين عامي 1878-2018”.

ـ وفي اللغة البلغارية، صدرت لي عدة كُتيبات ضمن سلسلة ملاحظات تاريخية، وهي (الخلفاء الراشدون)، (الأمويون في سوريا وإسبانيا)، (العباسيون في بغداد وأوائل الدول الإسلامية التركية)، وسيكون ختام هذه السلسلة بكتيب عن الدولة العثمانية إن شاء الله تعالى، والذي أرجو أن يُطبع عام 2023م، بمناسبة مرور مائة سنة على إنشاء الجمهورية التركية.

ـ حقيقةً، تراوحت إقامتي ودراستي وعملي كذلك بين تركيا وبلغاريا في فترات متعاقبة؛ فقد رجعت إلى بلغاريا، وعشت في العاصمة “صوفيا” في الفترة بين 2001-2010م، وقمت بوظيفة التدريس في المعهد العالي للعلوم الإسلامية، وأثناء قيامي بهذه الوظيفة شاركت مع عدد من الإخوة في تأسيس مدرسةٍ لتخريج الأئمة بالتعاون مع رئاسة الفتوى، وقمنا بنشر بعض الكتب الدينية.

ثم رجعتُ لاحقًا إلى إسطنبول حيث أقيم وأعمل الآن، لكن لم تنقطع علاقتي ببلغاريا حتى هذه اللحظة، وقد توليت في إسطنبول إدارة قسم الطلاب الأجانب في مركز البحوث العلمية (ilam)، التابع لوقف عزيز محمود هدائي، حيث يقوم القسمُ بتدريس القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، واللغة التركية، لطلاب يتوافدون عليه من أكثر من ثلاثين دولة.

إطلالة على الماضي الشيوعي

ـ لفهم الحاضر، نود منكم إطلالة سريعة على معاناة مسلمي بلغاريا أثناء الحقبة الشيوعية في النصف الثاني من القرن الماضي/العشرين.

نشأتُ في ظل دولة كانت تعتمد النظام الشيوعي الذي يتبنى فلسفة لا دينية، إضافة إلى انتشار فكرة معاداة الأتراك بتأثير من انتشار الأفكار القومية والتوجهات البلشفية، ولذلك كانت تشكل الأقليةُ التركية -التي تعد أكبر الأقليات في بلغارية- مسألةً مؤرّقة للدولة ونظام الحكم، فكانت تحاول الدولة إضعاف ومحو الأقلية التركية من خلال تهجيرها إلى تركيا، ومن خلال صهرها وتذويبها عبر سياسات استيعابها ضمن الدولة البلغارية الملحدة.

وقد بلغت هذه السياسات ذروتها عبر عمليات القمع والضغط المختلفة في شهر كانون الأول من شتاء عام 1984م، حيث بدأت الدولة بالقوة في تغير أسماء الأتراك إلى أسماء بلغارية مسيحية، فقاموا بتغيير أسماء حوالي مليونَيْ مسلم بالقوة في غضون ثلاثة أشهر، وكنت ممن تغير اسمُه في هذه السنة حين بدأت الدراسة في المدرسة الابتدائية، واستمرت الأوضاع نحوًا من خمس سنوات أُغلقت خلالها المساجد، ومُنعت الشعائر الإسلامية؛ كالأضحية وختان الأطفال، ومُنعت النساء من ارتداء الزي الإسلامي التقليدي، ومُنع الأتراك من استخدام اللغة التركية، وباختصار فقد حاولت الدولة منع كل شيء له علاقة بالإسلام والأتراك.

وبين عامي 1985-1989 مارست بعضُ الدول الإسلامية، وخاصة تركيا، ضغوطًا كثيرة على الدولة البلغارية لمنح الأقلية المسلمة الحرية ورفع القيود التي تفرضها عليهم، وفي أيار/مايو 1989، ثارت الأقلية التركية في بلغاريا ونظموا مظاهرات في مناطق كثيرة مرددين شعارات مثل (نريد أسماءنا، نريد لغتنا، نريد ديننا).

وفي ذلك الوقت طالب رئيسُ الدولة آنذاك -وكان جيفكوف- رئيسَ تركيا عبر شاشة التلفزيون بفتح أبواب تركيا أمام الأقلية التركية لتهاجر إلى تركيا، فرد عليه طورغوت أوزال -رئيس تركيا آنذاك-: (الأبواب مفتوحة، حتى أنت تستطيع أن تأتي). وفي هذه الأثناء هجَّرت الحكومة البلغارية 360 ألف تركي من بلغاريا خلال ثلاثة أشهر، وكانت عائلتي من ضمن هذه العائلات المهاجرة.

ـ بلا شك في فترات المحن العصيبة تكون هناك مئات وآلاف القصص الإنسانية، لذا هل يمكن أن تقص علينا موقفًا إنسانيًّا عشته بنفسك؟

يمكنني مشاركتكم حكاية عشتها بنفسي..

لكن في البداية أود التوضيح بأن مسألة تغيير الاسم بدأت أولًا بحثِّ الناس على تقديم طلب لدائرة النفوس يُبدون فيه رغبتهم في تغيير أسمائهم، فتعرض عليهم الدائرةُ قائمة بالأسماء البلغارية، وقد كان يتم هذا كله تحت تهديد السلاح، وفي تلك الأيام الصعبة كان يلجأ المسلمون الأتراك إلى اختيار الكلمات المشتركة بين البلغارية والتركية، مثل اسم (قرنفل) على سبيل المثال، فإنه اسم مشترك بين اللغتين التركية والبلغارية يُطلَق على نوع من الزهور، ومثل اسم (آنا) فهو اسم مشترك بين اللغتين بمعنى الأم.

والقصة التي سمعتها بنفسي من صاحبتها كانت مع العمة خديجة، والتي كانت قد أنجبت للتوِّ مولودة في غاية الحسن والجمال، فقالت لها الممرضة البلغارية: ينبغي أن نضع اسمًا جميلًا لهذه المولودة الجميلة، فأصاب العمةَ خديجة الاضطرابُ والذعر، وقبل أن تطلق الممرضة اسمًا بلغاريًّا على الطفلة بادرت العمة خديجة بالقول: سميتها (وعلى)، وهو اسم مغنية بلغارية مشهورة في تلك الفترة، ولكنها اقتبست الاسم في الحقيقة من صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كانت الصيغة (اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم)، وأطلقت الاسم على ابنتها حتى تربطها دائمًا بصيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

الأمر نفسه تكرر معها مرة أخرى عندما ولدت ابنَها إسماعيل، فحينما أرادت أن تسميه (سيفيرين) لأنه أقرب الأسماء البلغارية لكلمة (سيفيريم) التركية التي تعني أحب، ولكن الموظفين البلغار في دائرة النفوس رفضوا ذلك، وخاصة بعد أن اكتشفت الدولة حيلة الأتراك في التسمي بأسماء قريبة لأسمائهم التركية، فأجبروها على أن تسميه إيفان، والذي يعد أشهر الأسماء الدينية المسيحية في بلغاريا، ويقابل في ثقافتهم ما لاسم محمد من قيمة ومكانة في ثقافتنا الإسلامية، ولما أصرّ الموظفون البلغار على موقفهم بعد جدال طويل معهم، تفاجؤوا بالعمة خديجة تترك طفلها على طاولة الموظف قائلة: أنا لم أنجب إيفان، خذوه وافعلوا ما شئتم، وخرجت تمشي باتجاه موقف الحافلات، فلم يكن أمام الموظفين الذين أسقط في أيدهم إلا أن يركضوا وراءها ويُسلِّموها الطفل لتسميه كما تريد.

حاضر مسلمي بلغاريا.. بين التحديات والنجاحات

ـ اليوم، ما هي أبرز التحديات التي ما زالت حاضرة في أوساط مسلمي بلغاريا، والتي هي نتاج طبيعي للمراحل الصعبة السابقة؟

ـ لا شك أننا اليوم في حال أفضل بكثير مما كان عليه الحال في ظل الحكم الشيوعي للبلاد، فيمكن للمسلمين الآن أداء عباداتهم وشعائرهم الإسلامية بحرية، كصلوات الجماعة في المساجد وذبح الأضاحي والذهاب للحج، لكن لم نتجاوز إلى الآن بعض المصاعب التي نعاني منها منذ 140 سنة، فلم يستطع المسلمون في الدولة حتى الآن أن يتخلصوا من اعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية بل الثالثة في المجتمع، ولم يستطع بعض المسلمين استرداد أسمائهم الإسلامية التي تغيرت قبل عام 1990 خوفًا من تعرضهم للتمييز والمعاناة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وما زالوا إلى الآن يضطرون لاستخدام أسمائهم المسيحية البلغارية تجنبًا لكثير من المضايقات العنصرية، ولم تنفك الدولة عن الانحياز في المعاملة ضد المسلمين، فإلى الآن لا يمكن للمسلمين الدخول في بعض الوظائف، مثل: الأمن والقضاء والشؤون الخارجية.

ـ وماذا عن النجاحات التي تحققت منذ فترة الانفتاح في بدايات التسعينيات من القرن الماضي؛ أي خلال الثلاثين سنة الماضية تقريبًا؟

ـ على الرغم من كل ما ذكرناه آنفًا، فإن مكتب المفتي العام بالتعاون مع عشرين مكتبًا للإفتاء في الأقاليم يقدمون الخدمات لأكثر من ألف مسجد وثلاث مدارس دينية، ومعهد إسلامي عالٍ، ومعهدين لتخريج الأئمة والخطباء ومركز لتحفيظ القرآن الكريم، وأكثر من 600 دورة صيفية لتحفيظ القرآن الكريم.

ويساهم في هذه الخدمات ونشر التعليم الديني كثير من الطلاب العائدين من الدراسة في بعض البلاد، مثل: تركيا والأردن ومصر والسعودية.

وقد أقرت الدولة قبل سنوات قانونًا جديدًا يخصص لكل فرد 5 يورو سنويًّا من الميزانية، وبحسب الأرقام الرسمية التي يبلغ فيها المسلمون حوالي 650 ألفًا، فإن الدولة تخصص لدائرة الإفتاء الرئيسية مبلغًا قدره 3.250.000 يورو ليُدفع للأئمة والخطباء.

كما بدأت الدولة في دفع مخصصات للمدارس الثانوية الدينية كما تفعل مع المدارس الحكومية العامة، وهذا مما يمكن اعتباره مكاسب حصل عليها المسلمون في السنوات الأخيرة.

مستقبل مسلمو بلغاريا.. أولويات وتوصيات

ـ كيف ترون المستقبل؟ ما هي الأولويات أو التوصيات المستقبلية التي يجب الأخذ بها ومراعاتها في الفترات القادمة للوصول لغد مشرق لمسلمي بلغاريا؟

ـ الشخصية التي نحتاج لبناء هويتها في مثل هذه الظروف هي الشخصية الإسلامية المثقفة الواثقة من نفسها، والتي لا يتردد صاحبها في الإعلان عن انتمائه الإسلامي والمطالبة بحقوقه دون خوف أو وجل.

ولبناء مثل هذه الشخصية نحتاج إلى تقوية العقل والروح في أبناء المجتمع المسلم، الذي يحتاج أيضًا إلى زعيم ديني وأب روحي يحترمه الجميع، وتقف وراءه الجماهير للمطالبة بحقوقها، واستعادة هويتها ومكانتها من جديد، وهذا من ألزم الواجبات على المجتمع المسلم في بلغاريا.

مساحات حرة

ـ هل تودون إضافة شيء هام لم نتطرق إليه في أسئلتنا السابقة؟

ـ ـ في نهاية الثلاثينيات أرسل مفتي بلغاريا العام ثلاثة طلاب للدراسة في الأزهر، وهم: أحمد داود أوغلو، وعثمان سيف الله، ومحرم ديفيجي أوغلو، وكذلك درس الطالب إسماعيل الأزهري في الأزهر بإمكاناته العائلية، وقد قدم هؤلاء العلماء خدمات جليلة، وكانت لهم آثار طيبة في الحياة العلمية في بلغاريا وتركيا، فحبذا لو عُدنا إلى تبادل الطلاب مجددًا الآن، لما له من آثار مهمة في ربط مسلمي بلغاريا بإخوانهم في البلاد الإسلامية.

ـ وأخيرًا.. هل ترغبون في إرسال أي رسالة للجهات المعنية عبر موقعنا؟

نتمنى أن يعرف العالم الإسلامي أن له إخوة مسلمين في بلغاريا يشاركونهم الإيمان والانتماء لدين واحد، وكتاب واحد، ونبي واحد، ويشاركونهم في عباداتهم وقِيَمهم، إضافة إلى ذلك فإن للرحلات السياحية والزيارات العلمية أهمية خاصة لما ستوفره من دعم معنوي للمسلمين هناك.

التخطي إلى شريط الأدوات