تراجع الدولة العثمانية عن مناطق نفوذها في البلقان خلال القرن التاسع عشر؛ أشعر الألبان بالخطر الذي بات يقترب تدريجياً من حدود مناطقهم التي كانت تجمعها أربع ولايات متجاورة تحت الحكم العثماني.
فقد قامت الدول الأوروبية وروسيا بدفع شعوب البلقان من غير المسلمين والتي تنحدر من عرقيات مختلفة كالصرب، واليونانين، والبلغار على الثورة ضد الحكم العثماني ودعمتها حتى استطاعت تدريجياً في إعلان استقلالها عن الدولة العثمانية وتأسيس دول قومية خاصة بكل منها وذلك على مدار القرن التاسع عشر وفي بدايات القرن العشرين.
هذه التطورات المتلاحقة؛ أشعرت الألبان بأن مناطقهم التي تقع في أقصى غرب منطقة البلقان، على وشك أن تصبح كجزيرة محاصرة من محيط معاد لها (أرثوذكسي/كاثولي) من كافة الجهات خاصة بعد سيطرة النمسا على البوسنة والهرسك في عام 1878م والتي كانت لها مطامع كذلك في الأراضي الألبانية وتنافسها في ذلك إيطاليا، كما نافستهما من الشرق روسيا والتي اتخذت من شعوب البلقان السلافية رأس حربة لها للتدخل في المنطقة.
فقد كانت كل من أوروبا وروسيا تصنفان الألبان كحليف تاريخي واستراتيجي للعثمانيين في البلقان، ولذلك كانت خطوتهم التالية بعد طرد العثمانيين من البلقان القضاء على هذا الحليف الألباني سواء بالاحتلال المباشر (وفق المخطط الأوروبي)، أو عبر دعم المشروعات التوسعية لدول البلقان الناشئة حديثاً كصربيا واليونان وبلغاريا والجبل الأسود والسماح لها بالامتداد على حساب الأراضي الألبانية (وفق المخطط الروسي).
هذا الواقع الجديد في موازين القوى وتغير الخريطة السياسية لدول البلقان؛ دفع بالألبان إلى التفكير في توحيد ولاياتهم الأربع في دولة ألبانية واحدة ولأول مرة في تاريخهم تتمتع بحكم ذاتي في ظل الإدارة العثمانية ويتاح لها اتخاذ قرارات مصيرية سياسية وعسكرية تضمن بقاء الأراضي الألبانية موحدة وتصمد أمام المحاولات الأوروبية المتواصلة للسيطرة عليها ونزعها من الدولة العثمانية.
وبهذا بدأ “الحلم الألباني” يشق طريقه وسط تحديات هائلة..
“رابطة بريزرن”.. وانتفاضة الألبان
انطلق المشروع الألباني لتوحيد الولايات الألبانية الأربع في عام 1878م، من مدينة “بريزرن” التي كانت في فترة سابقة عاصمة لولاية كوسوفا، ومثل اجتماع مسئولي الولايات الألبانية الأربعة أول انتفاضة ألبانية قومية طالبت الإدارة العثمانية بمنحها صلاحية الحكم الذاتي للأراضي الألبانية.
وكان هدف الاجتماع سياسيا وعسكريا في آن واحد، فعلى الجانب العسكري تم الاتفاق على تكوين جيش ألباني يستطيع الدفاع عن المناطق الألبانية، بينما هدف المسار السياسي إلى تحقيق استقلال في قرار الألبان السيادي بالحفاظ على أراضيهم بعيداً عن قرار اسطنبول وعدم التقيد بما تمليه الدول الأوروبية عليها من شروط، وطالبوا الجميع بالتحدث معهم مباشرة فيما يتعلق بمصيرهم ومناطقهم.
وبهذا المؤتمر دخل الألبان في ساحة الصراع ليس فقط مع القوى الخارجية وإنما كذلك مع الدولة العثمانية الآخذة في التقهقر والتراجع المستمر لرفضهم الانصياع لأي قرارات تصدر عنها تمس وحدة أراضيهم.
مؤتمر لندن.. واجهاض الحلم
ولم يتأخر الغرب كثيراً لاجهاض هذا الحلم الألباني على مراحل متسارعة؛ فقد تم تحويله تحت ضغوط عسكرية وسياسية من فكرة حكم ذاتي تابع لتركيا إلى مشروع انفصال عنها في عام 1912م، وتم هذا في ظل اجتياح جيوش الصرب من الشمال والجيش اليوناني من الجنوب للأراضي الألبانيا.
وفي العام التالي تم تقسيم ألبانيا في مؤتمر لندن عام 1913م، حيث قرر إعطاء أكثر من نصف أراضيها لدول البلقان المجاورة مما أخرج نحو نصف الشعب الألباني خارج حدود دولته الأم.
وبهذا أجهض هذا المؤتمر الحلم الألباني واعتبرت أوروبا هى المسئولة تاريخياً عن تشتت الشعب الألباني في عدة دول عاش فيها كأقليات مضطهدة ومسلوبة الحقوق والحريات على مدار القرن العشرين.
وهكذا، تم إعادة رسم الخريطة السياسية لمنطقة البلقان بناءاً على المشروعات التوسعية وليس على أساس الدول القومية التي تعني إنشاء كل عرقية لدولتها الخاصة، مما يعني أنه تم التراجع عن شعار “النهوض القومي للدول” الذي كان سائداً خلال القرن التاسع عشر الميلادي، لتبدأ مرحلة جديدة في البلقان تقوم على أساس المشروعات التوسعية التي تتعدى الطموحات القومية بإنشاء دولة خاصة بعرقية معينة إلى هيمنة على الشعوب المجاورة وكان الضحية هنا هى الشعوب الألبانية المسلمة.
والنتائج الكارثية لهذا المؤتمر مازالت حاضرة إلى اليوم؛ فعلى الرغم من أن دولة ألبانيا محاطة بدول بلقانية تختلف عن الألبان في الهوية والثقافة واللغة والتاريخ والعادات؛ إلا أن الأراضي المتاخمة للحدود الألبانية ـ داخل هذه الدول ـ ما زالت تعيش بها أقليات ألبانية تتحدث اللغة الألبانية وتشترك مع ألبان “دولة ألبانيا” في الهوية والثقافة واللغة والتاريخ والعادات.
تمسك الألبان بـ”حلمهم التاريخي”
والسؤال الذي بات يطرح نفسه بقوة هذه الأيام وفقاً للمعطيات والمتغيرات الجارية على الساحة البلقانية بشكل عام وعلى الساحة الألبانية بشكل خاص وبعد مرور أكثر من مائة عام على “مؤتمر لندن ـ 1913” الذي تسبب في مأسأة الألبان:
هل ما زال “الحلم الألباني” حياً في وجدان وأذهان الألبان حتى اليوم؟
وبقراءة المشهد البلقاني في المراحل التاريخية اللاحقة على مدار القرن العشرين؛ نجد أن ألبانيا اعتبرت نفسها دوما مسئولة عن الشعوب الألبانية التي تعيش في دول الجوار البلقاني، كما نرى أن تلك الأقليات الألبانية تنظر لدولة ألبانيا باعتبارها الأم الحامية لها.. وهذه النظرة انعكست على الواقع العملي في مراحل تاريخية صعبة مرت بها المنطقة وعايشتها الشعوب الألبانية مما يعني أن هذا الحلم لم يمت في نفوس الألبان وإن عجزوا عن تحقيقه إلى اليوم نظراً لتغير موازين القوى في البلقان إثر انسحاب الدول العثمانية بعد حضور دام لخمسة قرون في المنطقة عاش في ظلالها ليس فقط الألبان المسلمون وإنما كافة شعوب البلقان من غير المسلمين في حرية وأمان لم تشهدها المنطقة في الفترات التاريخية اللاحقة حتى بين شعوب ودول المنطقة من غير المسلمين.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر:
ـ مسئولية ألبانيا: أول ملك لألبانيا وهو أحمد زوغو الذي تربع على عرش ألبانيا في 1 سبتمبر من عام 1928م، أطلق على نفسه لقب “ملك الألبان” وليس ملك ألبانيا، وهو ما يعني أنه ضم إلى مسئوليته ورعيته جميع الألبان خارج حدود دولته “ألبانيا” والذين تفرقوا على الدول المجاورة لها.
ـ نسف فكرة التقسيم: خلال الحرب العالمية الثانية وعلى إثر احتلال إيطاليا لألبانيا قامت الأولى بتشجيع الألبان على إعادة ضم الأراضي التي نزعت منهم في عام 1913م في كوسوفا ومقدونيا والجبل الأسود، وهو ما يعني اعتراف دول أوروبية ـ فور تغير مصالحها ـ بحق الألبان التاريخي في “إعادة” ضم أراضيهم التي نزعت منهم ظلماً ودون وجه حق، وإن كانت لهم مصلحة أخرى في السيطرة على هذه الأراضي؛ ولكنها تنسف قرارات مؤتمر لندن 1914م بتقسيم ألبانيا.
ـ وحدة المصير: خلال حروب البلقان التي اندلعت في العقد الأخير من القرن الماضي، لم يجد ألبان كوسوفا خلال حربي 1998 و1999 سوى الحضن الألباني الدافىء في كل من ألبانيا وكوسوفا، وتكرر نفس المشهد حينما اندلع النزاع المسلح في مقدونيا عام 2001م ـ بين الألبان والمقدون الأرثوذكس ـ حينما فتحت بيوت الألبان في كوسوفا وألبانيا أبوابها لللاجئين من مناطق الصراع في غرب مقدونيا؛ مما يدلل على شعور الألبان بأنهم شعب واحد يقف معاً في السراء والضراء..
ـ حراك مدني يبشر بالحلم: ويضاف إلى ما سبق الحراك الشعبي المتواصل الذي يعلو تارة ويخفت تارة أخرى من قبل منظمات المجتمع المدني ذات التوجه القومي ومن قبل مثقفين ألبان في المناطق الألبانية المختلفة في كل من ألبانيا وكوسوفا ومقدونيا مبشرين بهذا الحلم الذي أطلقوا عليه (ألبانيا المتكاملة) في إشارة بأنها تختلف عن المشروعات التوسعية السابقة عليها مثل “صربيا الكبرى” أو “اليونان الكبرى” حيث توسعت هذه المشروعات البلقانية على حساب أراضي شعوب مجاورة..
وفي الختام.. أهم ما يؤكده من يرفعون شعلة هذا الحلم حتى اليوم من الألبان يتمثل في تأكيدهم على أن موازين القوى تتبدل وتتغير ولا تبقى على حالها، وهذا ما يعطيهم الأمل ويدفعهم للتمسك بحلمهم القومي في عدم التفريط في حقهم التاريخي بوحدة جميع الأراضي الألبانية وجمع الشعوب الألبانية في دولة خاصة بهم..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إسلام أون لاين ـ 10 يوليو 2017م ـ هاني صلاح