بالرغم من دخول الإسلام لبلاد الألبان قبل 5 قرون فإن أول ترجمة كاملة وصحيحة لمعاني القرآن الكريم لم تتم إلا منذ 20 عاما فقط، أي في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، جاء هذا رغم المحاولات الجادة التي بدأت منذ مطلع القرن العشرين والتي اقتصرت على أجزاء معينة، وشابها كثير من الأخطاء اللغوية وغيرها.
بداية التواصل والأبجدية الثالثة
ورغم هذا التأخر فإن مشوار محاولات العلماء الألبان في هذا المجال قد بدأت قبل ذلك بكثير؛ فقد كان أول اتصال للألبان بالإسلام عن طريق التجار العرب المسلمين الذين حضروا خصيصا من الأندلس للتجارة بمنطقة البلقان.
وظلت هذه المعرفة محدودة إلى أن قام العثمانيون بفتح ألبانيا بقيادة السلطان محمد الفاتح الأمر الذي ساعد الألبان على التعرف المباشر على الإسلام ومن ثم بدءوا في الدخول التدريجي فيه خلال وقت ليس بالقصير.
وقد بدأ الأتراك تدريجيا، وبعد أن استقر الأمر لهم في ألبانيا، في توسيع المدن القديمة مع بناء مدن جديدة، وأقاموا في قلب كل مدينة مسجدا ألحقوا به مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، وتعليم اللغة العربية والعلوم الإسلامية التي كانت في أول الأمر تدرس باللغة التركية ثم أصبحت تدرس باللغة العربية بعد ذلك.
وهذا ساعد على انتشار واسع للغة العربية وسط الطلاب المتخرجين في هذه المدارس الذين انتشروا بدورهم في المدن الأخرى والقرى المحيطة بها لتعليم الناس مبادئ الإسلام وشرحها لهم بأسلوب مبسط باللغة الألبانية.
وبعد أن كانت اللغة الألبانية تكتب بالحروف اللاتينية عند الألبان الكاثوليك في شمال ألبانيا، وبالحروف اليونانية عند الألبان الأرثوذكس في الجنوب الألباني، أصبحت هناك أبجدية ثالثة يستخدمها الألبان المسلمون -والذين أصبحوا يتبعون المشيخة الإسلامية التركية في إستانبول- والمتمثلة في الأحرف العربية.
وبدخول معظم الألبان تدريجيا في الإسلام أصبحت الغالبية العظمى منهم تستخدم الأحرف العربية في كتابة لغتهم؛ حبا منهم في التميز وحرصا، من جهة أخرى، على عدم الذوبان في المحيط الأرثوذكسي والكاثوليكي.
انقسام.. وشعور بالأهمية
ورغم شعور الألبان المسلمين الأوائل من خلال معايشتهم العملية لتعاليم القرآن الكريم بحاجتهم الماسة لترجمة معانيه وتفسير آياته بهدف فهمه بشكل أكثر عمقا، فإن العلماء الألبان انقسموا في مسألة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الألبانية إلى فريقين:
الأول: رفض المبدأ من أصله، ووافقهم على ذلك شيخ الإسلام في إستانبول الذي كان يرفض أيضا ترجمة معاني القرآن إلى التركية.
والقسم الثاني: رأوا أهمية وضرورة الترجمة.
ويعلق على ذلك المفكر الإسلامي الألباني المعاصر “نجات إبراهيم” قائلا: “إن مواقف كلا الفريقين من قضية ترجمة القرآن كان لها مبرراتها المقبولة في ذلك الوقت؛ ولكنها في النهاية كانت فترة مؤقتة تغيرت بعدها الأمور تماما وظهرت الحاجة الماسة إلى ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الألبانية، وتحول النقاش بعد ذلك بين العلماء في اتجاه آخر هو كيف نقوم بالترجمة؟ وما هو المنهج الذي يجب اتباعه خلال هذا المشروع؟”.
ومما شجع العلماء على ضرورة القيام بترجمة معاني القرآن الكريم ومن بعده الحديث الشريف وباقي العلوم الإسلامية هو التزايد المتصاعد والمستمر في النشاط الأرثوذكسي والكاثوليكي وسط الألبان، خاصة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ حيث شهدت تلك الفترة ازدهارا لحركة الطباعة والترجمة المدعمة من الغرب والتي تركزت في البداية على ترجمة الإنجيل والكتب الدينية المسيحية إلى اللغة الألبانية.
وفي نفس الفترة، انتقلت حركة الترجمة إلى القرآن الكريم وذلك خلال عام 1921م حين طبع منه أول ترجمة غير كاملة من قبل ألباني أرثوذكسي هو “تشفزازي” اشتملت على حوالي ثلث السور القرآنية، وقد عانت ترجمتها من السطحية، وشابها كثير من الأخطاء وافتقدت لأي تعليقات جانبية. ومع ذلك اعتبرت تجربة تاريخية هامة في هذا المجال.
للتأخر أسباب..
ويمكننا أن نجمل أهم أسباب تأخر ترجمة القرآن الكريم وانشغال الألبان عن هذا المشروع إلى أسباب لغوية تتمثل في عدم وجود أبجدية موحدة للغة الألبانية مع وجود لهجتين للغة الألبانية، في الشمال لهجة “جيجي”، وفي الجنوب لهجة “توسكى”.
كما أن موضوع اللغة نفسها اعتبر عاملا سلبيا؛ حيث ثراء اللغة العربية بكلماتها ومفرداتها عن مثيلتها في اللغة الألبانية؛ إضافة إلى عدم وجود قاموس ألباني عربي للمساعدة في قضية الترجمة؛ الأمر الذي دفع ببعض المترجمين إلى الاستعانة بالترجمات الإنجليزية مع العربية أثناء قيامهم بترجمة معاني القرآن للألبانية.
أدب وترجمة موضوعية
المميز في الحالة الألبانية أنه منذ القرن السابع عشر الميلادي سلك كثير من العلماء والأدباء الألبان المسلمين مسلكا أدبيا جديدا لتوضيح موضوعات قرآنية أو أجزاء من القرآن الكريم وشرح آياته وما تتضمنه من تعاليم وتوجيهات إسلامية عن طريق الأدب والشعر الألباني المكتوب بالأحرف العربية.
فلمخاطبة العامة من الشعب الألباني استخدم الأدب لشرح موضوعات شتى من سير الأنبياء أو إبراز حرمة وقبح المحرمات خاصة الكبائر كالزنا وشرب الخمر، بهدف تبسيط فهم الآيات القرآنية وما تشتمل عليه من أوامر ونواه، وقد ظهر بوضوح هذا الأدب الألباني الجديد ونما في القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي.
وتعد قصيدة “مولود”، أبرز الأمثلة على ذلك، وألفها العالم الألباني “حسن زيكو كامبري” وهي تحكي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. كما نظم “كامبري” شعرا عن حياة نبي الله إبراهيم عليه السلام شرح من خلاله الآيات القرآنية التي ألقت الضوء على سيرته.
كما تم تقديم تاريخ يوسف عليه السلام بما تضمنته سورة يوسف من آداب عبر ما كتبه العالم الألباني “محمد كيتشكو”، الذي ولد في عام 1784 ودرس في الأزهر الشريف في مصر ثم عاد ليعمل إماما بقريته بمحافظة دلفينا جنوب ألبانيا، كما ألف كيتشكو قصصا في مجال السلوك الإسلامي والأخلاق.
ومع بدايات القرن العشرين سلك بعض العلماء الألبان مسلكا آخر تمثل باختيار موضوعات مهمة وتجميع كافة الآيات القرآنية التي تتحدث عنها والقيام بترجمة معانيها وشرحها باللغة الألبانية، ومثال ذلك كتاب “الصلاة” للعالم الألباني المعروف “الحافظ إبراهيم داليو” الذي جمع كافة الآيات التي تتحدث عن الصلاة في القرآن الكريم وبدأ في ترجمتها وشرحها باللغة الألبانية.
محاولات جادة
بعد استقلال ألبانيا عن تركيا في عام 1912م وحسم قضية كتابة اللغة الألبانية بالأحرف اللاتينية نهائيا في عام 1920م شعر المسلمون الألبان أكثر من ذي قبل بأهمية ترجمة القرآن الكريم وبدأت محاولات جدية لإخراج ترجمة كاملة للقرآن الكريم باللغة الألبانية، غير أنها لأسباب كثيرة لم تكتمل في بعض مراحلها.
وكانت محاولة العالم الألباني إبراهيم داليو أهمها إلا أنها لم تر النور كاملة، وكذا اختلفت الآراء حول أسباب عدم الانتهاء منها أو لعدم طباعتها كاملة بينما ضاعت أجزاء منها.
وفي عام 1929م بدأ العالم الألباني “إبراهيم داليو” بترجمة أجزاء من القرآن الكريم وسماه “المختار في معاني القرآن الكريم”، وكان منهجه في هذه الترجمة هو كتابة النص العربي أولا ثم كتابة كيفية نطقه بالحروف اللاتينية لمن لا يعرف الحروف العربية، ثم ترجمة معاني الآيات القرآنية، وقد وضع فيه بعض التعليقات والتوضيحات حول المعاني القرآنية المترجمة،
وقد لاقت هذه النسخة، في حينها، قبولا واستحسانا من قبل علماء ألبانيا، ولم ينتظر حتى يكمل ترجمة القرآن كاملا وبدأ بطباعة الأجزاء التي انتهى منها خلال الفترة من 1929م وحتى عام 1937م، وبدخول إيطاليا ألبانيا ثم بدء الحرب العالمية الثانية واعتلاء الحزب الشيوعي للحكم تم وقف أنشطة الطباعة للمؤلفات الدينية في ألبانيا، ولم يعد يسمع شيء عن هذه النسخة المترجمة.
ترجمة كاملة
وفي عام 1981م في برشتينا بكوسوفا وتحت إشراف جمعية علماء كوسوفا “المشيخة الإسلامية” تم تشكيل لجنة من 8 من العلماء والأساتذة المتخصصين برئاسة العالم الألباني الكوسوفي شريف أحمد (Sherif Ahmetit 1920م – 1998م) حيث قامت اللجنة بتسليم النسخة المترجمة لجمعية علماء كوسوفا في 6 يونيو لعام 1984م ولأسباب لم يفصح عنها لم تطبع النسخة إلى اليوم.
وكانت أول طباعة كاملة لترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الألبانية تمت في عام 1985م وكانت للترجمة التي قام بها فاتي مهديو Feti Mehdiu أستاذ الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة برشتينا. وتحمل هذه الترجمة قيمة كبيرة من حيث إنها المرة الأولى التي يتم فيها ترجمة كلية لمعاني القرآن الكريم باللغة الألبانية.
وتم تداول هذه الترجمة فقط وسط ألبان إقليم كوسوفا والألبان المهاجرين في الخارج بينما لم تتح الفرصة للألبان في دولة ألبانيا تداول هذه الترجمة نتيجة منع النظام الشيوعي وقتها أي مظهر من مظاهر الدين أو تعلمه، كما لم تتضمن هذه الترجمة أي تعليقات جانبية حول الترجمة، الأمر الذي لم يساعد على انتشارها؛ إلا أنه أعيد طباعتها في عام 2000م بإقليم كوسوفا.
ثاني طباعة كاملة لترجمة القرآن الكريم باللغة الألبانية تمت في عام 1988م من قبل الأستاذ حسن ناهي في كوسوفا والذي أنهى دراسته الإسلامية في مصر، وتميزت ترجمته بالدقة اللغوية، وقد جعل النص القرآني باللغة العربية بجانب الترجمة الألبانية.
طباعة أفضل.. وجهد أكبر
ثالث طباعة لترجمة كاملة للقرآن الكريم تمت على يد العالم الألباني الكوسوفي شريف أحمدي في عام 1988م وتحت إشراف مسئولي المشيخة الإسلامية الألبانية في العاصمة الكوسوفية برشتينا، وهذه تعتبر أفضل ترجمة ألبانية لمعاني القرآن الكريم حتى الآن وأشهرها وأكثرها تداولا بين الألبان الذين يصل تعدادهم لحوالي 17 مليونا.
وقد لقي أمر وضع النص العربي وسط الكتاب وحوله ترجمة معاني الآيات القرآنية إضافة إلى تعليقات في الهامش كي تساعد القارئ الألباني على فهم المقصود من الآيات القرآنية -استحسانا عند الغالبية العظمى من الألبان.
رابع طباعة لآخر ترجمة كاملة للقرآن الكريم تمت على يد شخص غير ألباني هو “محمد زكريا خانيت”، الباكستاني الجنسية، وهي ترجمة مليئة بالأخطاء وخاصة العقائدية، وبها انحراف كبير عن الترجمة الصحيحة لمعاني القرآن الكريم، وقد طبعت في إسلام آباد سنة 1990م.
ورغم النجاح الكبير نسبيا الذي حققه مشروع ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الألبانية فإن هناك جهدا علميا ولغويا كبيرا ما زال يحتاج إلى البذل في هذا المجال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إسلام أون لاين ـ 2005م ـ هاني صلاح