تُجسّد مبادرة “أسعد الألم” نموذجًا حيًّا لكيفية تسامي الإنسان فوق معاناته، وتحويل الألم الشخصي إلى مشروع حضاري نابض بالحياة، يُسهم في إغناء الوعي المجتمعي وتعزيز التضامن الإنساني في ألبانيا.
مسلمون حول العالم ـ خاص ـ هاني صلاح
في عالم مليء بالتحديات، تظهر شخصيات استثنائية فريدة قادرة على تحويل الألم إلى أمل، والمعاناة إلى قوة دافعة نحو التغيير. إحدى هذه الشخصيات التي سطعت في سماء ألبانيا هي السيدة بريجيدا موشا ماشا، التي حولت تجربتها الشخصية مع ابنها المصاب بالتوحد إلى مبادرة إنسانية غيرت حياة العديد من الأسر والمراهقين المصابين بالتوحد في البلاد.
“أسعد الألم” (Lumturo Dhimbjen) هو مشروعها الذي انطلق من صميم الواقع ليصبح اليوم منارة أمل تشع بالنور في مجال رعاية المصابين بالتوحد.تُجسّد هذه المبادرة نموذجًا حيًّا لكيفية تسامي الإنسان فوق معاناته، وتحويل الألم الشخصي إلى مشروع حضاري نابض بالحياة، يُسهم في إغناء الوعي المجتمعي وتعزيز التضامن الإنساني في ألبانيا.
فقد جعلت بريجيدا من مبادرة “أسعد الألم” حجر الزاوية لعملية دمج اجتماعي وإنساني، يقدم الدعم اللازم لهذه الفئة المهمشة في المجتمع الألباني. من خلال تقديم برامج علاجية وتأهيلية، بالإضافة إلى إشراك المجتمع المحلي، وبهذا تحول التحدي إلى فرصة، والإعاقة إلى قوة، وأصبحت هذه المبادرة نموذجًا حيًا يعكس أسمى معاني العطاء والإصرار.
بداية المبادرة.. من ألم إلى أمل
بدأت القصة في فبراير 2018، حين طرحت بريجيدا سؤالًا عميقًا: كيف يمكن أن تتحول معاناة الأم مع طفلها المصاب باضطراب طيف التوحد إلى مصدر للفرح والأمل؟ هذا السؤال كان البذرة الأولى التي نمت لتصبح مشروعًا يحمل رسالة واضحة: تحويل الألم إلى أمل، وتحقيق حياة كريمة للأطفال والمراهقين المصابين بالتوحد.
في البداية، واجهت بريجيدا موشا ماشا العديد من التحديات، إذ كانت ألبانيا تفتقر إلى المراكز المتخصصة التي تهتم بمساعدة المراهقين المصابين بالتوحد، خصوصًا أولئك الذين تجاوزوا سن الرابعة عشرة. ورغم البدايات المتواضعة، لم تيأس بريجيدا وزوجها جنتيان، بل شرعا في رحلة بناء شيء أكبر من مجرد مركز للعلاج.
المحطة الحاسمة.. افتتاح مركز “أسعد الألم”
في 6 أبريل 2023، وصلت المبادرة إلى نقطة تحول فارقة مع افتتاح مركز “أسعد الألم” في تيرانا، المركز الأول من نوعه في ألبانيا الذي يقدم رعاية متكاملة للمراهقين المصابين بالتوحد. لم يكن المركز مجرد مؤسسة طبية أو تعليمية، بل تحول إلى مكان آمن يتسم بالرحمة والدعم النفسي، حيث يعيد رسم معالم الحياة للأسر التي تعاني من الصعوبات النفسية والعملية في تربية أطفالهم المصابين بالتوحد.
رحلة التطور.. خدمات متعددة لدعم الشاب والفتاة المصابين بالتوحد
مركز “أسعد الألم” يقدم مجموعة شاملة من الخدمات التي تركز على التأهيل والتعليم والتدريب المهني، بهدف تمكين المراهقين المصابين بالتوحد من الاندماج الفعلي في المجتمع. تشمل هذه الخدمات العلاج الوظيفي والنطق، والعلاج بالفن، بالإضافة إلى التدريب على المهارات الحياتية والأنشطة الرياضية التي تعزز استقلالية الشباب وتجعلهم قادرين على مواجهة تحديات الحياة اليومية بثقة.
التوعية كأساس للتغيير المجتمعي
يولي مركز “أسعد الألم” اهتمامًا كبيرًا في تنظيم حملات إعلامية وتثقيفية لرفع مستوى الوعي حول اضطراب طيف التوحد في المجتمع الألباني. يتم تنظيم مؤتمرات وورش عمل بصورة مستمرة لتوضيح حقوق المصابين وإتاحة الفرصة للتفاعل مع الأطباء والمعالجين المحليين والدوليين. كما يقوم المركز بإجراء دراسات ميدانية لقياس أعداد المصابين بالتوحد وتحليل احتياجاتهم من أجل تقديم حلول أكثر فاعلية.
التوجه نحو سوق العمل.. تمكين الشباب المصابين
من أبرز المحطات التي حققها المركز هو برنامج التدريب المهني، الذي يتيح للمراهقين المصابين بالتوحد اكتساب مهارات عملية تمكنهم من دخول سوق العمل والمشاركة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. هذا التوجه يعد خطوة مهمة نحو تغيير الصورة النمطية المتعلقة بالتوحد، حيث يرتبط عادةً بالعزلة والاعتمادية، بينما استطاع “أسعد الألم” تحطيم هذه المفاهيم وتقديم نموذج حي على قدرة هؤلاء الشباب على الإبداع والمشاركة المجتمعية.
ثقافة التطوع.. القلب النابض للمشروع
تتجسد قوة المبادرة في ثقافة التطوع التي زرعها القائمون عليها. يشارك العشرات من الشباب المتطوعين والعائلات والمتخصصين في دعم البرامج اليومية داخل المركز. هؤلاء المتطوعون ليسوا مجرد عاملين في المشروع، بل هم جزء من فلسفة “أسعد الألم” التي تعتمد على التضامن الاجتماعي والرحمة، حيث يُعتبر كل متطوع عنصرًا أساسيًا في عملية تمكين الشباب المصابين بالتوحد.
“أسعد الألم”.. مشروع حضاري
مبادرة “أسعد الألم” تمثل تحولًا ثقافيًا واجتماعيًا حقيقيًا في كيفية تعامل المجتمع مع الأشخاص المصابين بالتوحد. كانت هذه المبادرة بمثابة الضوء الذي يضيء الطريق للمجتمع الألباني نحو بناء بيئة أكثر شمولية وعدلاً، حيث يتم تضمين الجميع بغض النظر عن حالتهم الصحية. من خلال هذه المبادرة، تحولت قضية التوحد من “وصمة” إلى “قضية مجتمعية” حقيقية، وظهر التوحد ليس كتحدٍ طبي، بل كفرصة لبناء شبكة دعم إنسانية متكاملة تسهم في تحسين جودة حياة المصابين وأسرهم.
دعم الزوج ومساندته.. شريك في رحلة الأمل
تتحدث بريجيدا موشا ماشا عن الدعم الكبير الذي تلقته من زوجها جنتيان، الذي كان الشريك الحقيقي في رحلة “أسعد الألم”. تقول بريجيدا: “لم يكن المشروع ليرى النور دون دعم جنتيان المستمر ومشاركته الفعّالة في جميع جوانب العمل، من التخطيط إلى التنفيذ. كان شريكًا حقيقيًا في تحمل المسؤولية وتجاوز التحديات، وخاصة في الأوقات الصعبة التي واجهنا فيها صعوبة في تمويل المبادرة أو إيجاد الكوادر المتخصصة”. تضيف بريجيدا: “وجوده بجانبي ليس فقط كزوج، بل كصديق وشريك في هذا المشروع كان حاسمًا، فهو ليس فقط دعمي العاطفي، بل كان يعطيني القوة للاستمرار حينما تزداد الصعوبات”. في نظرها، لا يُعتبر جنتيان مجرد زوج، بل رفيق درب وأحد الأعمدة الرئيسية التي ساعدت في بناء هذا الصرح الإنساني.
“أسعد الألم”.. ثورة إنسانية
لقد أثبت مركز “أسعد الألم” أن الإنسان يمكنه تحويل معاناته إلى مصدر إلهام للمجتمع، وأن الألم ليس نهاية الطريق بل بداية لتحقيق الأمل. وبفضل هذه المبادرة الرائدة، أثبتت ألبانيا قدرتها على بناء مجتمع أكثر عدلاً يحتوي الجميع ويوفر لهم فرصًا متساوية للعيش بكرامة.
مبادرة “أسعد الألم” ليست مجرد مشروع، بل هي ثورة إنسانية في كيفية التعامل مع التحديات الاجتماعية والنفسية. فقد نجحت هذه المبادرة في تغيير موازين الحياة للمصابين بالتوحد في ألبانيا، وأعطت الأمل والفرصة لأجيال من الشباب المراهقين لعيش حياة كريمة ومستقلة.