مسلمون حول العالم ـ متابعات
بقلم الدكتور مجدي سعيد ـ كاتب صحفي مقيم في لندن
المسلمون في بريطانيا، سواء من المسلمين الجدد، أو من الجيل الثاني والثالث من المسلمين يسعون لبناء ذاكرة جماعية لهم عبر التنقيب في التاريخ المبكر للإسلام في بريطانيا وإحيائه بكافة السبل، وإحياء تاريخ وذكر فاطمة إليزابيث كيتس، هو جزء من جهودهم تلك.. فماذا تعرف عنها؟
شخصية استقلالية
كانت فاطمة كيتس Fatima Cates (أو فرانسيس إليزابيث موراي)، واحدة من ذلك المجتمع البريطاني المسلم الذي تجمع حول مسجد ليفربول، وحول باقي المشروعات التي أسسها عبد الله كويليام في نهايات القرن التاسع عشر، لكنها لم تكن كأي امرأة، إذ تمتعت بعقلية وشخصية استقلالية وحركية ناشطة في خير المجتمع حتى من قبل إسلامها.
وكما يقول تقرير لموقع “بي بي سي ريليجن” نشر في 20 نوفمبر 2022، فإنه “عندما ولدت فرانسيس إليزابيث موراي في عام 1865 في أسرة مسيحية صارمة في ليفربول، لم يكن ليتخيل الكثيرون أن حياتها ستقودها للمساهمة في تأسيس أول مسجد مسجل في المملكة المتحدة وتصبح فاطمة كيتس، أول امرأة معروفة اعتنقت الإسلام على الأراضي البريطانية.
كادت تُنسى
وكما يضيف تقرير البي بي سي فـ”رغم كل أهمية حياتها، فإنها كادت أن تُنسى بعد وفاتها. وظل قبرها في منطقة الأنفيلد بالمدينة بدون علامات حتى شرع حامد محمود، الذي أسس مدرسة دينية سميت باسمها في لندن، في محاولة تحديد موقع قبرها. وقال إنه كان مدفوعا بالرغبة في إبراز “شجاعة” فاطمة وتأثير المرأة في ظل وجود “المصادر اللامتناهية” حول الرجال.
نقطة التحول
وفي كتابه الذي حمل عنوان “فاطمتنا الليفربولية” أو Our Fatima of Liverpool، والذي ساهم في إعداده الكاتب والباحث البريطاني المسلم يحيى بيرت، يتحدث حامد محمود عن اللقاء المصيري الذي بدأت حياتها تتغير منذ حضرته، وهو ذلك اللقاء الذي جرى في إحدى قاعات المدينة في يونيو من عام 1887، والذي كان منعقدا في إطار حركة الاعتدال temperance movement، تلك الحركة الاجتماعية التي نشطت في الولايات المتحدة وبريطانيا في ذلك الوقت لمنع الكحوليات، وهي الحركة التي ارتبطت أيضا بنشر الديمقراطية ومناهضة العبودية وبالدعوة للنقابية.
وهي الحركة التي وجدت في ليفربول (الميناء الثاني في بريطانيا بعد لندن) بيئة خصبة. وكما يقول حامد محمود في الفصل الأول من كتابه، فقد كانت ليفربول في تلك الحقبة الاستعمارية هي أكثر المدن البريطانية من حيث معاقرة الخمر، ومن حيث الجرائم، ومن حيث الفقر والقهر، ومن ثم لم يكن غريبا أن تنشط فيها حركة الاعتدال.
في تلك الليلة، كان المحاضر هو المحامي المفوه ويليام هنري كويليام، الذي اشتهر بقدراته الخطابية كمحامي دفاع منذ عام 1885، والذي كان ناشطا أيضا في حركة الاعتدال، وفي تلك القاعة المخصصة للطبقة العاملة، تحدث كويليام ببراعته في تلك المحاضرة عن الموضوع الرئيسي وهو منع الكحوليات، وعرج بالحديث عن ثلاث شخصيات مهمة ذات صلة بمبادئ الحركة، وهم ويليام ويلبرفورس، عضو البرلمان الذي كان له الفضل في صدور قانون بريطاني لمنع الإتجار في العبيد، والثاني هو جورج ستيفنسون وابنه روبرت اللذان كان لهما الفضل في تأسيس أول خط سكة حديد في العالم ما بين ليفربول ومانشستر، وقد كان الثالث هو محمد، رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أشار إلى أنه ليس كأي أحد.
يومها تحدث كويليام عن كفاح الرسول وصحابته ضد مشركي قريش، وقد كان حديثه على الرسول مفاجئا لفرانسيس لأن فكرتها عن الرسول – مما سبق وسمعته – كانت سيئة، خاصة مواقفه من المرأة، ومن ثم كان الأمر موضع سؤال منها للمحاضر بعد انتهاء محاضرته، والذي بين لها المعلومات الصحيحة، ثم أعارها نسخته من ترجمة القرآن، وقد كانت من ترجمة المستشرق البريطاني جورج سيل، حيث لم تكن هناك ترجمات قام بها مسلمون في هذا التاريخ، وطلب منها كويليام، ألا تعتمد على كلامه، وإنما عليها أن تقرأ وتقرر بنفسها.. وقد كان.
لكن خطوة بسيطة كمطالعة ترجمة كتاب “المحمدانيين”، كما كان يطلق على المسلمين، لم تكن لتمر بسهولة في بيت فرانسيس، حيث حاولت أمها سلب الكتاب منها لإحراقه، ومنعها لها من قراءته، لكنها أغلقت على نفسها باب غرفتها وشرعت في قراءته، واصطحبته معها أينما خرجت لحمايته، وقد ازداد الأمر سوءا عندما كانت تلتقي بكويليام وأول من أسلم على يديه “علي هاملتون”، وعندما تكررت اللقاءات، وعندما أعطاها كويليام عددا من الكتابات حول الإسلام، صارت والدتها أكثر عنفا – لفظيا وماديا – معها، منعا لها من المضي قدما في رحلتها نحو الإسلام، لكنها استمرت، بل إنها صارت ثاني من أسلموا.
تأسيس “جمعية مسلمي ليفربول”
ومن ثم، وفي 17 يوليو 1887 (أي بعد شهر واحد تقريبا على المحاضرة)، شاركت في تأسيس “جمعية مسلمي ليفربول Liverpool Muslim Society”، وصارت هي أمينة صندوق تلك الجمعية، واتخذت الجمعية لها مقرا عبارة عن غرفة صغيرة أعلى إحدى قاعات “جمعية الاعتدال” بالمدينة، وفي تلك الغرفة الصغيرة، كانت المجموعة الصغيرة تلتقي يوم الجمعة للصلاة وتعلم القرآن والإسلام، كما كانت تعقد لقاءات لعامة أهل ليفربول لتعريفهم بالإسلام، حتى مضى عامان وقد زاد عدد المسلمين من 3 إلى 18، منهم ثلاث نساء، كان لجهود فاطمة فضل في اعتناقهن الإسلام، وذلك إلى أن قام مالك الأرض بطرد المجموعة من المكان عام 1889م.
ومن هناك انتقل الجمع إلى المبنى المعروف باسم (8 بروجام تراس)، والذي سمي بمسجد ليفربول أو معهد مسلمي ليفربول، والذي شهد مشاركة فاطمة في إلقاء المحاضرات، وفي الكتابة للصحف، وفي التواصل الخارجي سواء مع المجتمع الناشئ للمسلمين الهنود الناشطين الذين جاءوا للدراسة في ليفربول، ومع مسلمي الهند وصحافتها كتابة وشعرا ودعوة للدعم المادي لمشروعات مجتمع ليفربول المسلم الوليد، كما استمرت جهود فاطمة في دعوة البريطانيات من أهل ليفربول للإسلام، وخلال خمس سنوات في المقر الجديد بلغ عدد المسلمين 247 مسلم، ربعهم تقريبا من النساء. كان منهم أختيها، اللتان أسلمتا وتزوجتا باثنين من الشباب الهندي المسلم.
محنة مأساوية
ولكن، وعلى المستوى الشخصي، كانت فاطمة تمر بأسوأ ظروف اجتماعية يمكن أن تعرفها أي امرأة، فزوجها، الذي قيل أنه أسلم في تلك الفترة، لم تسلم فاطمة من أذاه المستمر لفظيا، وبدنيا، في البيت وفي العلن، ووصل الأمر للضرب المبرح، والجرح، والشروع في القتل، مما استدعى منها أن تطلب حماية الشرطة، وأن تقدم التماسا بالزواج، لكنا قوبلت بقانون بريطاني متعسف تجاه طلبات النساء بالطلاق صادر عام 1857، ولذلك فإنها ورغم ما تعرضت له ورغم بلاغاتها للشرطة حصلت على قرار بالانفصال، لكن وفاة ذلك الزوج المسيء عام 1896 حررتها من تلك الحياة المأساوية.
وبعدها وبداية من عام 1898 عانت فاطمة من اعتلال في الصحة، وتفرغت لرعاية طفلها من زوجها، ومن ثم قلت نشاطاتها، لكن تفاعلها مع مجتمع المسلمين لم يتوقف، وقد عبرت عن ذلك عبر الكتابات، وعبر هديتها للمؤسسة والتي كانت عبارة عن فازة رسمت عليها زهورا وآيات من القرآن.
وفي أواخر أيامها عانت من الأنفلونزا، ثم من الالتهاب الرئوي حتى توفيت يوم 29 أكتوبر من عام 1900، وأقيمت لها مراسم دفن إسلامية في مقبرة أنفيلد، كأول شخص من المسلمين يدفن هناك.
إحياء ذكرها بعد قرن
وكما حظي كويليام بعناية متأخرة من مسلمي بريطانيا، فقد حظيت فاطمة كيتس عام 2014، بافتتاح حامد محمود لمدرسة باسمها في شمال شرق لندن إحياء لذكراها، كما تمكن من تحديد مكان قبرها عام 2019 خلال بحثه لإعداد الكتاب، فوجده غير مميزا، ومن ثم بادرت إحدى مسلمات ليفربول وهي السيدة أميرة سكاريسبريك Amirah Scarisbrick بقيادة حملة خلال شهر رمضان من عام 2022 لوضع شاهد حجري على قبرها، وهو الشاهد الذي تم وضعه في 4 نوفمبر من نفس العام، كما حظي قبرها بزيارة جماعية من عدة جمعيات للمسلمين الجدد جاءت من أنحاء البلاد لزيارة قبرها والترحم عليها، وكأن الزيارة إحياء لذكرى ذلك المجتمع الأول للمسلمين البريطانيين الذي كان لجهود فاطمة دور كبير في تأسيسه ونموه.