مسلمون حول العالم – خاص ـ أجرى الحوار: هاني صلاح
في حوار خاص مع “مسلمون حول العالم” حول واقع المخطوطات العربية في كوسوفا، أكد الشيخ عبد القادر محمود عبد القادر الأرناؤوط، المتخصص في مجال تحقيق الكتب والمخطوطات الإسلامية، والمسؤول عن المكتبة والمخطوطات والمطبوعات العربية القديمة في كلية الدراسات الإسلامية في بريشتينا، على الثراء الكبير لتراث علماء كوسوفا القدامى في مختلف العلوم الشرعية والثقافية والعلمية.
وأشار الشيخ عبد القادر، وهو أيضًا عضو مجلس إدارة معهد البحوث والدراسات الإسلامية في العاصمة بريشتينا، التابع للمشيخة الإسلامية في دولة كوسوفا، إلى أن المخطوطات العربية القديمة في كوسوفا، والتي يعود بعضها إلى مئات السنين، قيمة جدًّا، وفي علوم وفنون مختلفة شرعية وأدبية وكذلك في العلوم الطبيعية، مما يؤكد على ازدهار الحياة العلمية والثقافية في كوسوفا في هذه العصور.
يذكر بأن الشيخ عبد القادر أنهى المرحلة الجامعية في كلية الدراسات الإسلامية في بريشتينا عاصمة كوسوفا، وتخصَّص في علم الحديث النَّبويّ الشريف، وعمل مع والده -رحمه الله- في مكتبه -مكتب ابن عساكر للتأليف وتحقيق كتب التراث- في عدة أعمال مع ثُلَّة من المحققين والأكاديميين.
وقام بتحقيق العديد من الكتب، وأشرف وراجع كتبًا متعددة، وأعدَّ وألَّف بعض الكتب، وله عدة أبحاث ومقالات في مسائل حديثية وفقهية. وهو يعيش حاليًّا مع أسرته في بريشتينا عاصمة بلده كوسوفا.
كما ساهم مع والده وإخوته في فهرسة المخطوطات العربية في كوسوفا، والتي صدرت في كتاب بعنوان “فهرست المخطوطات العربية في مكتبة المشيخة الإسلامية بكوسوفا”، ويحوي أكثر من ثمانمائة وثمانية وخمسين مخطوطًا في علوم مختلفة شرعية وثقافية وعلمية.
وإلى الحوار..
ـ في بداية حوارنا، نود التعرف على ظروف عودتكم لكوسوفا بعد فترة طويلة من الهجرة منها إلى دمشق الشام.
كان جدي الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، قبل وفاته بقليل، قد سمع من بعض طلاب العلم والأساتذة الألبانيين الزائرين لسوريا -حيث كان بيتنا في دمشق محط زيارة الألبانيين سواء من الحجاج أو طلبة العلم- بأن كوسوفا سوف تعلن استقلالها عن صربيا، فأخبر ابنه الشيخ محمودًا “والدي”، وأوصاه إن استقلت كوسوفا أن يرجع إليها كي يساهم بما يستطيع في بناء دولتنا الجديدة.
التزم والدي بنصيحة جدي وسافر بمفرده إلى كوسوفا -بعد إعلان استقلالها- بناء على دعوة كريمة من فضيلة المفتي الشيخ نعيم ترنافا، وذلك في منتصف عام 2009، وشاهد بنفسه خيرًا كبيرًا في البلد والناس، ولاحظ الدور الكبير للمشيخة الإسلامية؛ مما جعله يستشعر المسؤولية الكبيرة في ضرورة المشاركة بعلمه وجهده وعلاقاته في المشاريع الجديدة التي تنفذها المشيخة الإسلامية؛ فأخذ قرارًا بالبقاء في كوسوفا، وطلب منا كعائلة الحضور جميعًا.
وفي بداية التعرف على مشاريع المشيخة الإسلامية في كوسوفا بصحبة فضيلة المفتي الشيخ نعيم ترنافا، لاحظ والدي الشيخ محمود عند زيارته لمدرسة علاء الدين الثانوية الشرعية، وجود مكان كبير تم فيه الاحتفاظ بالمخطوطات والمطبوعات العربية القديمة في خزائن خاصة.
وعند اطلاعه عليها، وصفها بأنها كنوز تراثية قيمة ونادرة، واقترح على فضيلة المفتي توجيه نداء لأئمة المساجد وعائلات العلماء والشيوخ القدامى بإحضار كل ما لديهم من مخطوطات وكتب قديمة للبدء في فهرستها والعناية بها.
فاجتمع لدينا أكثر من 850 مخطوطة، فضلًا عن المصاحف والكتب المطبوعة القديمة، وبدأنا بفهرسة المخطوطات، فعملت مع والدي أنا وإخوتي ما يزيد على السنتين ونصف نواصل الليل بالنهار حتى انتهينا، وتم طباعة فهرست المخطوطات في مجلدين والحمد لله.
واستمرت عملية البحث والتجميع في الكتب القديمة حتى اجتمع عندنا أكثر من 1500 كتاب مطبوع قديم، قسم صغير منها باللغة العثمانية المكتوبة بالأحرف العربية، وقسم لا بأس به باللغة الفارسية.
ازدهار الحياة العلمية والثقافية
ـ كيف وجدت حالة هذه المخطوطات القديمة؟
أثناء الفهرسة تبين لنا أن هذه المخطوطات قيمة جدًّا، وفي علوم وفنون مختلفة شرعية وأدبية وحتى في العلوم الطبيعية كالطب، والأحياء، والهندسة، والفيزياء، والكيمياء، وغيرها.
ولا شك أن وجود مثل هذه المخطوطات القيمة من علوم التّراث الإسلامي التي يعود بعضها إلى مئات السنين يدل على ما كان لعلماء كوسوفا من إسهامات كبيرة في المحافظة على التراث الإسلامي، والعمل على إحيائه وصونه، ويؤكد -بما لا يدع مجالًا للشك- على ازدهار الحياة العلمية والثقافية في كوسوفا منذ مئات السنين.
وقد واجهنا في بداية عملنا مشكلة كون هذه المخطوطات جمعت من مكتبات بيوت العلماء والشيوخ أو من مكتبات المساجد ـحيث تم الحفاظ عليها بعيدًا عن أيدي الصرب الذين كانوا وما زالوا يدمرون ويحرقون كل شيء متعلق بالهوية والتّراث الإسلامي- لذا كان أغلبها مدفونًا تحت الأرض، أو داخل جدران وأسقف البيوت والمساجد.
فكنا نبذل جهدًا كبيرًا في تنظيفها من التراب والشوائب التي عليها، لكنها كانت بحالة جيدة من الداخل، حيث كانت مغلفة بعناية فائقة تشير لدرجة ومستوى حرص أهل كوسوفا على العناية بتراثهم والحفاظ عليه في ظروف وأوقات كانت صعبة للغاية على مدار القرن العشرين.
وما أسعدنا حقًّا وأثلج صدورنا هو مدى اهتمام الناس -في بلدنا- بأمر دينهم، لدرجة أنهم كانوا يحتفظون بكل كتاب مكتوب باللغة العربية، حتى لو كانوا لا يعرفون موضوع الكتاب، بل يتعبدون ويتقربون إلى الله تعالى بالحفاظ على الكتب العربية؛ لأنهم على يقين أن تعظيم اللغة العربية من تعظيم الدين.
مشكلة أخرى واجهتنا في كثير من المخطوطات؛ أنه نزع منها إما الغلاف أو الصفحة الأولى والصفحة الأخيرة، وكان الهدف من ذلك إذا عثر عليها الجيش الصربي ألّا يفهم عن أي موضوع تتحدث؛ حتى لا يقوم بمصادرتها أو حرقها إذا كانت تتعلق بالدين الإسلامي.
ـ كيف سارت الأمور معكم بعدها؟
اشتغلنا سنتين ونصفًا تقريبًا من الصباح إلى المساء حتى استطعنا أن نفهرسها ونرتبها، وأخرجناها في مجلدين بعنوان “فهرست المخطوطات العربية في مكتبة المشيخة الإسلامية بكوسوفا”، تحوي أكثر من ثمانمائة وثمانية وخمسين مخطوطًا في علوم شرعية مختلفة: (علوم القرآن الكريم، والحديث الشريف، والعقيدة، والفقه -سواء الفقه الحنفي حيث مذهب الدولة، أو فقه المذاهب الأخرى المشهورة، والشعر، واللغة، والنحو).
وكذلك هناك مخطوطات في (الأدب، والصرف، والبديع، والبيان)، وأيضًا في العلوم الطبيعية (كالطب، والهندسة، والفيزياء، والكيمياء، وعلم الأحياء)، فضلًا عن بعض المخطوطات باللغة الفارسية، وكذلك مخطوطات باللغة العثمانية المكتوبة بالأحرف العربية.
وحقيقة، المخطوطات المحفوظة نسخها نفيسة جدًّا، وقد اعتُني بها عناية فائقة ولله الحمد. فضلًا عن المطبوعات القديمة التي ذكرناها آنفًا.
ـ ماذا كانت باكورة أعمالكم بعد الانتهاء من طباعة مجلدي فهرست المخطوطات العربية؟
كان من أهم الأعمال التي وقع اختياري عليها -عندما أنشئ معهد البحوث والدراسات الإسلامية عام 2020، حيث تم اختياري عضو مجلس إدارة في المعهد من قبل فضيلة المفتي الشيخ نعيم ترنافا، ومدير المعهد الشيخ صبري بايغورا وفقهما الله- نسخة نفيسة نادرة من مخطوطة “صحيح البخاري” منسوخة عن نسخة الحافظ اليونيني -رحمه الله- وقد تفاجأنا وفرحنا بوجودها بين مخطوطاتنا.
فقد طلب مني مدير المعهد أن أقترح عملًا علميًّا يكون باكورة أعمال المعهد الثقافية، فأشرت عليه بإخراج هذه المخطوطة -التي هي مفخرة للأمة الإسلامية عمومًا، ولبلدنا كوسوفا على وجه الخصوص- ففرح بهذا -وفقه الله- وحثّني وشجّعني ويسّر لي كل السبل لنشره وإخراجه.
ـ في سياق عملكم في مجال المخطوطات العربية في كوسوفا، كنتم قد راجعتم وقدّمتم لمخطوط «الجامع الصحيح» المعروف بـ«صحيح البخاري» نسخة الحافظ اليونيني؛ لذا نود معرفة ما تمتاز به هذه النسخة عن غيرها من النسخ المتوفرة في مكتبات العلماء؟
ميزة نسخة الحافظ اليونيني -رحمه الله- أنها اشتهرت في الآفاق لما فيها من مزايا يحرص عليها طلاب العلم، ونسخوا منها نسخًا كثيرة قابلوها وصححوها عليها، وأسموها فروعًا؛ إذ عدُّوا نسخة اليونيني أصلًا، بل أسموها أم النسخ؛ ذلك أنه اعتنى بضبط روايات “الجامع الصحيح” المعروف بـ”صحيح البخاري” وقارن بينها وصحَّحها، معتمدًا في ذلك على أربعة أصول رئيسية:
أولًا: أصل مسموع على أبي ذرٍّ الهرويّ من طريق أبي العباس أحمد بن الحطيئة الفاسيّ الأصل، ثم المصري حسب سنده.
ثانيًا: أصل مسموع على الأصيليّ، وعليه الحواشي بخطّ الحافظ ابن عبد البر يوسف بن عبد الله النّميريّ القرطبي.
ثالثًا: أصل سماع أبي القاسم بن عساكر: علي بن الحسين الدمشقيّ مؤرّخ الشام.
رابعًا: أصل مسموع على أبي الوقت: عبد الأول بن عيسى السجزيّ، ثم الهروي.
وكان ذلك تحت نظر الإمام اللغوي الشهير ابن مالك (محمد بن عبد الله الطائي الجيانيّ) نزيل دمشق، صاحب الألفية المشهورة بـ “ألفية ابن مالك”.
وكذلك بمحضر جماعة من فضلاء المحدثين والحفاظ، وهم بدورهم ناظرون في نسخ معتمدة من “صحيح البخاري” حتى إذا مرّ بهم من التعابير ما يتراءى أنه مخالف لقوانين اللغة العربية تساءل ابن مالك: هل الرواية فيه كذلك؟ فإن أجيب بالإثبات شرع في توجيهها حسب إمكانه، وما اختاره ورجّحه وأمر بإصلاحه بادر الشرف اليونيني إلى إصلاحه في أصله وصحّح عليه، وما ذكر أنه يجوز فيه إعرابان أو ثلاثة عمل المشار له على ما أشار به ورجّحه، وهكذا حتى كملت المعارف والتصحيح عند المجلس الحادي والسبعين، وبهذا المناسبة وضع ابن مالك تعليقه: “شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح”.
وأيضًا اشتملت هذه النسخة على ميزات لا توجد في غيرها، وهي:
أولًا: مقدمة الحافظ اليونيني التي بيّن فيها رموزه التي أثبتها والنسخ التي اعتمدها.
ثانيًا: إسناد الكتاب إلى الإمام البخاري.
ثالثًا: فيها إسناد للحافظ أبي زرعة العراقي في أولها.
رابعًا: إثبات ما جاء في آخر النسخة من ذكر اسم الناسخ، وتاريخ نسخها.
خامسًا: هذه النسخة خطها جميل مقروء وهي مشكولة بالكامل.
وغيرها من المزايا، ولا يخفى على أهل الاختصاص أن أهم المميزات التي يمكن تقييم النسخ الخطية بها، هو الإسناد المذكور في أوائل هذه النسخ؛ فبها تتم معرفة ناسخها، والرواية التي اعتمد عليها، وغير ذلك من الأمور.
“بعضها أهم من المخطوطات”
ـ بجانب المخطوطات، وجدتم كتبًا عربية قديمة مطبوعة.. هل من إطلالة عليها؟
من اللطائف -كما ذكرنا- أن أهل كوسوفا كانوا من حبهم للدين وتعظيمهم للغة العربية يحافظون على كل كتاب مكتوب بالعربية ويعتبرونه كالمصحف، فيتقربون لله تعالى بالحفاظ عليه، وهذا نابع من حبهم للتراث الإسلامي؛ لذا أثناء عملية تجميع المخطوطات القديمة تفاجأنا أن هناك مطبوعات عربية قديمة بعضها يعود إلى مائتي سنة من الطباعة الحجرية، فاجتمعت عندنا مطبوعات عربية قديمة أكثر من المخطوطات، وبعضها مهمة جدًّا؛ لأنه لم يعد لها نسخ أخرى.
وعلى سبيل المثال للتوضيح؛ عندما زارنا في كوسوفا رئيس مركز إرسيكا -مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، المتفرِّع عن منظمة التعاون الإسلامي- وجد عندنا مصحفًا مخطوطًا مترجمًا تحت كل سطر باللغة العثمانية المكتوبة بالأحرف العربية، فقال: “هذا ليس موجودًا عندنا، وقدَّر الله أن يُحفظ في بلدكم في كوسوفا”.
وكان بعض الشيوخ الألبان قد أحضره لكوسوفا معه، فحُفظ هنا.
وهذه المطبوعات العربية القديمة كان والدي -رحمه الله- الشيخ المحقق محمود الأرناؤوط يقول: “بعضها أهم من المخطوطات”؛ لأنه لم يعد لها إلا نسخة واحدة، طبعت قديمًا طباعة حجرية قبل ثلاثمائة أو مائتين أو مائة وخمسين سنة، وقد جمعناها ورتبناها في خزائن، وهي محفوظة في مكتبة كلية الدراسات الإسلامية -ولله الحمد- على أمل فهرستها قريبًا -إن شاء الله.
https://www.facebook.com/hany.salah.754365/posts/pfbid02R8w9oq9EnGMF7P7qhkjuDRSQRX8tc5N5wu9okJ9SdpzFW4DDtgjHYyG2TWr28st6l