مسلمون حول العالم
نافذتك إلى أخبار الأقليات المسلمة

أحمد ديفيدز.. رائد التأريخ الاجتماعي والثقافي واللغوي لمسلمي جنوب أفريقيا

يعد الدكتور أحمد ديفيدز Achmat Davids (1939 – 1998) بمثابة كنز معرفي ثري ومجهول لغالبية المسلمين

مسلمون حول العالم ـ متابعات ـ هاني صلاح

يُعتبر أحمد ديفيدز مرجعا رائدا في الثقافة والمجتمع والتاريخ الإسلامي في جنوب إفريقيا.. فماذا تعرف عنه؟

ويعتبر أحمد ديفيدز بمثابة “كنز مجهول” لرائد تاريخي من ابناء المجتمع المسلم في دولة جنوب إفريقيا ـ رحمه الله تعالى ـ وفي هذا المقال الهام يكشف النقاب عنه الدكتور الباحث في تاريخ المجتمعات المسلمة حول العالم مجدي سعيد..

بقلم/ الدكتور مجدي سعيد ـ كاتب صحفي مقيم في لندن

اكتشاف كنز معرفي ثري ومجهول

يقول الإمام علي رضي الله عنه “منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب مال”، ويالسعادتك عندما تكون طالب علم، فيقودك التنقيب عن المعارف في موضوع ما، إلى اكتشاف بعد آخر، وتبلغ السعادة منك مداها عندما تقودك هذه الرحلة إلى اكتشاف كنز معرفي ثري ومجهول بالنسبة لك، كالذي توصلت إليه وأنا أبحث في تاريخ المسلمين في جنوب أفريقيا حينما وجدت أوراقا بحثية ومنشورات على مواقع الإنترنت تتحدث عن القائد والناشط والمؤرخ الثقافي والاجتماعي صاحب القبعات العديدة والإسهامات شديدة القيمة والثراء في التأريخ للثقافة والمجتمع المسلم في جنوب أفريقيا، وتحديدا من منطقة الكيب، وهو الدكتور أحمد ديفيدز Achmat Davids (1939 – 1998).

الدكتور أحمد ديفيدز Achmat Davids (1939 – 1998)

الدكتور أحمد ديفيدز هو أحد أبناء مجتمع المسلمين في منطقة الكيب، وتحديدا في منطقة بو كاب Bo-Kaap والتي تعني أعلى منطقة الكيب بلغة الأفريكانز، والتي كانت تُعرف سابقا باسم حي الملايو. وكانت منطقة معزولة عنصريا في السابق، وتقع على سفوح تل سيجنال فوق وسط مدينة كيب تاون وهي مركز تاريخي لثقافة الملايو في المدينة، ويقع فيها مسجد نور الإسلام، الذي أنشئ عام 1844.

أول ما يقابلك وأنت تبحث عن الرجل عدة مقالات لمراجعة درة أعماله وهو كتاب “الأفريكانيون من مسلمي الكيب من 1815 إلى 1915 The Afrikaans of the Cape Muslims from 1815 to 1915” وهو الكتاب الذي كان في أصله رسالة ماجستير تمت مراجعتها وتحريرها ونشرها في كتاب بعد وفاته، والذي قام فيه بعمل رائد في دراسة التراث اللغوي الذي كتبه المسلمون باللغة الأفريكانية وبالأحرف العربية في هذه الحقبة الزمنية سواء المنشور منه أو المخطوط.

والأفريكانية لمن لا يعرف هي خليط من العامية الهولندية التي استخدمت من قبل المحتلين الهولنديين والغربيين مختلطة بلغات ولهجات المستعبدين من شعوب الملايو (الذين جلبتهم هولندا من مستعمرتها في إندونيسيا) والأفارقة، وتطورت لتكون لغة مستقلة بذاتها. وقد ساهم كتاب أحمد ديفيدز في تجلية دور المسلمين في تطوير الأفريكانية خاصة عندما قاموا بكتابة نصوصهم بها مستخدمين الأحرف العربية، وكيف أثر ذلك من الناحية اللغوية والثقافية.

وعندما تشرع في مطالعة مراجعات هذا الإسهام العلمي تكتشف أنه ليس الإسهام الوحيد القيم للرجل، فالرجل كعالم وكاتب له العشرات من المقالات العلمية المنشورة في الدوريات والمقالات العامة المنشورة في الصحف والمجلات، كما أن له العديد من الكتب، والتي يذكر منها الباحثون ثلاثة كتب أخرى على الأقل، أولها كتابه “مساجد بو كاب Mosques of Bo-Kaap” (1980) والذي نال استحسانا كبيرا باعتباره كتابا يقدم تاريخا اجتماعي وثقافي حي للمسلمين في سياق سياسي واجتماعي متغير، وليس مجرد تاريخ مباني.

أما كتابه الثاني فكان عنوانه تاريخ تانا بارو The History of Tana Baru (1985)، وتانا بارو – وتعني الأرض الجديدة بلغة الملايو – هي أول مقبرة للمسلمين تأسست بعد السماح بالحرية الدينية عام 1804، وتضم رفات المسلمين الأوائل في الكيب، كما تضم رفات ثلاثة من كبار أئمة المسلمين، وقد تم إغلاق المقبرة فيما بعد، وهي أيضا تاريخ اجتماعي ثقافي سياسي حول قضية مهمة تواجه العديد من مجتمعات الأقلية المسلمة.

أما الكتاب الثالث لأحمد ديفيدز فيضم عددا من الأوراق البحثية حول تاريخ المسلمين، والتي شارك في تأليفها وتحريرها، وجاء بعنوان “صفحات من تاريخ مسلمي الكيب Pages from Cape Muslim History (1994)، وللرجل كما يذكر أحد المواقع 40 ورقة بحثية تاريخية، فضلا عن أوراقه البحثية اللغوية.

لكنك عندما تتعمق في البحث حول حياة أحمد ديفيدز تجد العديد من الأدوار التي قام بها، والعديد من القبعات التي ارتداها، وكما يشير مقال تعريفي قصير عنه فإن إرثه العام والجامع يكمن في التزامه ببناء مجتمع أفضل، ومن ثم فإن كفاحه طوال حياته، وإسهاماته كانت لتحقيق هذا الحلم.

فبعد الانتهاء من تدريبه كأخصائي اجتماعي (1964)، انضم إلى العمل مع كوباجاني (1965-1967) وهي مؤسسة معنية بمكافحة سوء التغذية، حيث عمل في إطعام وتعليم الفقراء، واكتسب خبرة عملية عن آفة الفقر وأوجهه المتعددة، مما عزز أسلوبه في العمل من خلال “الإدارة بالرحمة”.

وبصفته مديرا للخدمات الاجتماعية في المجمع الإسلامي (1967 – 1980) وجد قاعدة للتفاعل مع أسر المحرومين اجتماعيا، وصياغة وبدأ في إطلاق أدبياته لبناء المجتمع، أولها “مشاعر المجتمع والبلدات الملونة الجديدة” (1969)، والتي تلتها أوراق بحثية تم تقديمها في المؤتمرات، ومنشورات في المجلات الأكاديمية ألهمت ووفرت التوجيه للناشطين الواعين بالمجتمع.

ومن هنا جاء دوره كقائد مجتمعي ساهم في تأسيس وإدارة العشرات من مؤسسات المجتمع في مجالات التعليم ورعاية الأطفال والمسجونين، وفي مراكز بحوث ودراسات متعددة في أكثر من جامعة فضلا عن عضوية لجان تراث وآثار كيب تاون. وقد كان أبرز أدواره المجتمعية تأسيسه لحركة ومؤسسة برهان الإسلام في مجتمع بو كاب، والتي تقول في تعريفها لنفسها: كانت حركة برهان الإسلام هي المنظمة المجتمعية البارزة في بو كاب على مدار الخمسين عاما الماضية، جمعت بين المبادرات التعليمية الدينية وبرامج الارتقاء الاجتماعي والاقتصادي الرائدة تحت قيادة اثنين من أشهر أبناء المنطقة، وهما الراحل الإمام عبد الرحمن بصير وصديقه المقرب الأخصائي الاجتماعي الراحل والمؤرخ والباحث الدكتور أحمد ديفيدز.

وزيادة في الانخراط المجتمعي، ساهم أحمد ديفيدز بخبراته المتعددة في تأسيس واستمرار إذاعة “صوت الكيب Voice of the Cape” كأفضل محطة إذاعة مجتمعية في جنوب أفريقيا، عمل فيها كمذيع وباحث، ومقدم إلى أن أصبح مديرا للمحطة، حيث ساهم في صياغة سياسة لغوية وتحريرية وتوجه مجتمعي مميز ومنفتح للإذاعة، مما دفع المحطات التي نشأت بعد ذلك إلى محاكاتها.

وأخيرا وعلى الرغم من عمره القصير نسبيا (59 عام)، إلا أن الناظر لحياته لا يخطئ أنه كان إنسانا منتميا أولا لمجتمعه المسلم، ثم لمجتمعه متعدد الأطياف ثانيا، حيث خبر هذا المجتمع من أزقته وبيوت فقرائه، وثانيا أنه كان إنسانا دؤوبا لا يكف عن العمل ولا عن تطوير ذاته، نحلة لا تكف عن إنتاج العسل، حيث ارتقى من مراتب الأخصائي الاجتماعي إلى الأنثروبولوجي الاجتماعي، إلى التربوي، إلى المؤرخ الثقافي، إلى اللغوي… وكما يشير موقع “برهان الإسلام” فقد رفض أن تحتويه المدارس أو الهياكل أو النماذج الخاصة بهذه التخصصات… وحرص على أن يقدم في كل مجال منها مساهمة ذات مغزى وليس إنجازا شخصيا، وقد أثبت ذلك من خلال ساعات طويلة من البحث المضني حتى على حساب حالته الصحية الشخصية، ورفض الانجرار إلى الخطاب الفارغ وفي كل حديث وكل ورقة سلمها كان يحمل رسالة إيجابية للإنسانية – حتى لو بدا مثيرا للجدل من خلال صراحته الصادقة.

وأخيرا يُعتبر أحمد ديفيدز مرجعا رائدا في الثقافة والمجتمع والتاريخ الإسلامي في جنوب إفريقيا، وهذا ما دفع مؤسسة الرئاسة في جنوب أفريقيا إلى تكريمه عام 2019 بوسام إيخامانجا الفضي (بعد الوفاة): لمساهمته الممتازة في مجال الأدب والحفاظ على التاريخ من خلال رواية القصص، حيث أثرت أعماله فهمنا لمساهمة مسلمي كيب في تطوير اللغة الأفريكانية. كما جاء في مقدمة نص بيان التكريم.

ـ مصدر المقال ومزيد من المعلومات والروابط: ( اضغط هنا ).

التخطي إلى شريط الأدوات